والغزل عذب رقيق رقة مفرطة، وهو يستهله باستحلافه لحلو اللما أو سمرة الشفة ماله يجفو صبّا مغرما به. ومع أنه يصد عنه ظالما يفديه بروحه، ويذكّره بعيش وأيام مرت بالحمى، ويقول له: ارفق بصبّ، لم يعد له إلا طيفك فى الحلم يهواه، وإن رأى برقا لمع من أفقكم ندب وبكى طويلا، ويكتم الوجد والهيام وكم يغلبه كتمانه. ويمضى فى القصيدة منشدا:
لله محبوب رأى … حبّة قلبى فرمى
أعيذه من جائر … حكّمته فاحتكما (?)
لقيته فى أربع … بيض كأمثال الدّما
شابهن أزهار الرّبي … ع وحكين الأنجما
وقفت فاستسقيته … وشدّ ما بى من ظما
جاء بماء قلت هل … حاجة مثلى منك ما (?)
وهو يشكو محبوبه لربه فقد أبصر سويداء قلبه وفؤاده فرماه، ويعيذه أن يكون ظالما فقد حكّمه فتصرف حسب هواه ومشيئته. ويقول إنه لقيها فى أربع جميلات من حولها كأمثال الدّمى البديعة، شايهن أزهار الربيع العاطرة والأنجم الساطعة، وطلب منها جرعة ماء تشفى ظمأه، وجاءته بالماء، فقال لها مداعبا: وهل حاجة الصبّ المغرم مثلى منك إلى ماء؟ ! . وهو يسترسل فى القصيدة من هذا الحب للفتاة إلى حبه لمصر التى قضى فيها فترة من شبابه، فملكت عليه ذات نفسه، وظل يمجّدها ويتغنى بها غناء حارا طوال حياته فى أشعاره وقصائده الرائعة. ونتوقف قليلا لنترجم للشيخ الجليل أبى القاسم أحمد هاشم، ونعرض بعض غزلياته العفيفة الطاهرة.
ولد فى «برى» إحدى ضواحى الخرطوم سنة 1287 هـ/1861 م وهو من بيت شيوخ دين وقضاة ينتمون إلى العباس بن عبد المطلب، وألحقه أبوه الشيخ أحمد هاشم بقرّاء حفّظوه القرآن الكريم، وحفظه وهو فى العاشرة من عمره، وانتقل أبوه إلى بربر قاضيا لمديريّتها، وألحقه بمدرستها، حتى إذا اشتد عوده قليلا أخذ يدرس العلوم الدينية واللغوية على أستاذه الشيخ محمد الخير عبد الله، ثم على أستاذه الحسنى السيد حسين المجدى الأزهرى، وعليه درس النحو وكتاب جمع الجوامع فى الأصول. حتى إذا نضج علميا عيّن مدرسا بجامع بربر واستولى عليها المهدى فقرّ به منه واتخذه كاتبا له، وبالمثل اتخذه خليفته عبد الله التعايشى،