لقد آن أن أبكى وأغرى البواكيا … وأنظم من حبّ الدموع المراثيا
وأصبغ عبراتى دما ليس ناضبا … يخدّ خدودى مترعا والأماقيا (?)
أبى ما أبى حرّ كريم وذو وفا … وما كان ذا وجهين وغلا مداجيا (?)
أمين على سرّ الأخلاء حافظ … وكان لإخوان الصفاء مواسيا
تبوّأ مهد العزّ من نشأة الصّبا … وشبّ على هام المكارم ساميا
والمرضى يقول إنه حان أن يبكى ويغرى الباكيات بالبكاء وينظم من درر الدموع عقود المراثى ويصبغ عبراته بالدم الذى لا ينضب ولا يجفّ، بل يشق الخدود وآماق العيون شقوقا ملأى به. وينوه بأبيه فهو حر كريم وفىّ، وما كان يوما ذا وجهين نذلا منافقا، بل كان دائما أمينا على سر إخوانه: إخوان الصفاء مواسيا لهم، نزل مهد العز وأقام به منذ صباه، وشبّ على رءوس المكارم ساميا سموا متصلا. ويبكى الشاعر الشيخ عبد الله البناء أباه الشيخ محمد بن عمر البناء مفتش المحاكم الشرعية الذى ترجمنا له بين شعراء المديح بمرثية مؤثرة، وفيها يقول (?):
عين الكمال لهول يومك تذرف … والمجد يرعد والشريعة ترجف
رفّاع ألوية العلاء أرى العلا … مهجورة طرقاتها تتلهّف
كشّاف غمّاء المظالم بالهدى … حار الهدى لما ثوى من ينصف
يا قوم حامى السّرح أقصده الرّدى … بكّوا له بدم القلوب ونزّفوا
حجبوا السّناء عن النواظر حينما … هالوا عليك من التراب وأسرفوا
وهو يقول لأبيه إن عين الكمال تذرف الدمع مدرارا لهول يوم موتك، والمجد يرعد رهبة والشريعة ترجف فزعا لموتك، ويخاطبه: يا رافع ألوية العلاء والشرف أرى العلا هجرت طرقاتها وتتلفت متلهفة لو تراك. ويا كاشف غمة المظالم فى القضاء بنور هداك حار الهدى لما مات من ينصف المظلومين. ويلتفت الشاعر إلى قومه فيقول لهم إن الموت طعن حامى الحمى طعنة نافذة فابكوا له بدم القلوب حتى تنزفوه وتفنوه، ولقد حجبوا ضياءك عن العيون حين هالوا عليك التراب وأكثروا منه. وكان يعاصر هذا الشاعر محمد سعيد العباسى، وأنشد له صاحب كتاب الشعراء فى السودان طائفة غير قليلة من المراثى.