حاولت فى الصحف السابقة أن أؤرخ للأدب العربى فى العصر الجاهلى، فتحدثت عن صفة الجزيرة العربية وتاريخها القديم، وكيف أنها كانت مهد الساميين، إذ خرجوا منها موجة فى إثر موجة، وكانت موجة العرب الجنوبيين الذين يمّموا حوض المحيط الهندى آخر موجاتهم، وكانت تفصلهم من عرب الشمال صحراوات واسعة جعلتهم يستقلون عنهم فى لغتهم وخصائصها النحوية، كما جعلتهم يستقلون عنهم فى حضارتهم. ومع ذلك فقد ظلت قائمة بين الجنوبيين والشماليين أو القحطانيين والعدنانيين صلات اقتصادية ودينية وسياسية أتاحت لهم ضروبا من التداخل والتشابك. واستطاع الشماليون أن ينفذوا فى آخر الأمر إلى صورة خطّهم العربى المعروف.
ومضيت أتحدث عن العصر الجاهلى وحدّدته بنحو قرن ونصف قبل الإسلام، أما ما قبل ذلك فهو الجاهلية الأولى، وكل ما بأيدينا من شعر قديم إنما يرجع إلى العصر الجاهلى أو الجاهلية الثانية. ونحن نفاجأ فى أول هذا العصر باكتمال الخط العربى، كما نفاجأ بهذا الشعر الناضج الذى يضاف إلى الجاهليين. وأخبارهم واضحة تمام الوضوح، فقد كانت تقوم فى الشمال إمارات الغساسنة والمناذرة وكندة، بينما كانت تتجمع قلوب العرب حول مكة، فهى بيت كعبتهم وعبادتهم الوثنية، وهى مركز تجارتهم وقوافلهم التى تربط بين حوضى المحيط الهندى والبحر المتوسط، ووراءها قبائلهم البدوية، وكانت تنتظم قسمين كبيرين من عرب الشمال العدنانيين وعرب الجنوب القحطانيين الذين هاجروا من ديارهم إلى ديار الشماليين منذ أزمان بعيدة. وكانت كل قبيلة وحدة قائمة بنفسها، وهى وحدة دعمتها وشائج متينة من العصبية. وكان لكل قبيلة سيد ومجلس يضم شيوخ عشائرها، وواجبات السيد دائما أكبر من حقوقه، ومن ورائه أفراد قبيلته متضامنين أوثق ما يكون التضامن،