من المستشرقين والعرب أن يطلقوا عليها اسم «رحلة ابن جبير». وله رحلتان بعد هذه الرحلة حجّ فى كل منهما، والسبب فى أولاهما أنه سمع بفتح صلاح الدين لبيت المقدس سنة 582 واستيلائه عليه من أيدى الصليبيين، فحدثته نفسه أن يزور تلك الأماكن وعلم الإسلام يرفرف عليها، وارتحل لذلك سنة 585 وعاد سنة 587 إلى غرناطة وسكنها ثم سكن مالقة ثم سبتة منقطعا إلى إسماع الحديث النبوى وروايته. وكان قد تزوج من أم المجد عاتكة بنت أبى جعفر الوقّشى وزير ابن همشك أمير جيان قبل دخوله فى طاعة الموحدين، وكان كلفا بها، وتوفيت فعظم وجده عليها، ونظم فيها-بجانب ديوانين له أحدهما فى الشكوى من إخوان الزمان-ديوانا سماه: نتيجة وجد الجوانح فى تأبين القرين الصالح». ولكى يخفّف عن نفسه حزنه عليها رحل رحلته الأخيرة لأداء الحج سنة 614 وجاور بمكة فترة، ثم ارتحل إلى الإسكندرية وأدركته فيها منيته فى نفس السنة، ويغلب أن يكون مسجد سيدى جابر بها مسجده وأن تكون العامة حرّفت اسمه مع الزمن.
والرحلة مكتوبة بأسلوب مرسل تشيع فيه السهولة والسلاسة والعذوبة، مما جعلها نسيجة وحدها-كما يقول ابن الخطيب-كما جعلها تطير كل مطار، ونشعر فى أحيان كثيرة كأنما بيده ريشة يبدع بها لوحات رائعة كما فى تصويره للإسكندرية حين نزلها ومبانيها وأسواقها وشوارعها ومنارها العجيب وما بها من مساجد ومدارس وبيوت لطلاب العلم. ويقول إنه بمجرد أن ينزل بها طالب علم من الأقطار النائية يجد مسكنا والعالم الذى يدرس عليه والراتب الذى يرتفق به. وينزل القاهرة ويصف القلعة والأهرام وأبا الهول، ويرسم مشهد الحسين حفيد الرسول عليه السلام فى لوحة باهرة. ويطيل فى وصفه للمارستان بالقاهرة وما به من خزائن الأدوية والأسرّة كاملة الكسوة للرجال وما اتّخذ فيه من قسم خاص بالنساء وقسم على مقاصيره شبابيك من حديد للمجانين.
وينزل مدينة قوص ويصف الحياة فيها كما يصف مدينة عيذاب على البحر الأحمر ويقول فى بحرها جزائر بها مغاص للؤلؤ نفيس. ويركب البحر إلى جدة وينزل مكة، ويرسم المسجد الحرام فى لوحة باهرة، تجمع كل تفاصيله بأركانه وأبوابه وكل ما يغشى جوانب فيه من ذهب وفضة وستور حريرية وما به من مقام إبراهيم المغطى بالفضة ومن حوائط رائقة الترصيع والتجزيع وقباب بديعة وسوار وأعمدة بديعة التركيب. وتشغل هذه اللوحة صفحات متصلة من الرحلة لا تترك شيئا فى المسجد ولا فى ظاهره وسطحه إلا تقيّده.
ويرسم لوحة باهرة لمسجد الرسول عليه السلام كاللوحة التى رسمها للمسجد الحرام،