الهمزية، واختتم سجعات المقامة الثالثة والثلاثين بحرف الباء ولذلك سماها البائية، وسمى الرابعة والثلاثين الجيمية لاختتامه سجعاتها بحرف الجيم والخامسة والثلاثين الدالية لاختتام السجعات بحرف الدال. وبالمثل صنع نفس الصنيع فى السادسة والثلاثين فاختتم سجعاتها بالنون وسماها النونية. ونحس غير قليل من التكلف فى هذه المقامات الخمس لبناء السجعات فيها على حرف واحد. وكذلك الشأن فى المقامات الأربع التالية وأولاها وثانيتها على نسق الحروف الهجائية وثالثتها ورابعتها على نسق حروف أبجد المعروفة، ولكن من الحق أن سجعاته فى المقامات الأخرى تشيع فيها العذوبة والسهولة والقدرة على التفنن فى الوعظ والوصف ونسج الكلام.
ويتنقل السرقسطى ببطل مقاماته بين بلدان كثيرة فيما عدا المقامتين الثلاثين والخمسين، فقد استعرض فى أولاهما على لسان البطل مميزات أنبه الشعراء فى الجاهلية وعصر المخضرمين والعصرين: الأموى والعباسى، وخصّ الثانية-وهى المقامة الخمسون-بالحوار فى النظم والنثر بين ابن البطل حبيب وابن ثان لم يظهر إلا فى هذه المقامة اسمه غريب، وبينما ينتصر حبيب للشعر ينتصر غريب للنثر، حتى إذا اشتد بينهما الخصام، تدخل بينهما أبوهما الشيخ أبو حبيب للوئام، مبينا أن لكل من الشعر والنثر مجاله، والإحسان أنواع وضروب، حتى إذا اقتنع المتحاوران بكلامه أوصاهما- كما أوصى الحريرى ابنه فى مقامته الأخيرة-أن يقوما على حرفة الكدية وأن لا يصطحبا إلا الجواد ولا يرحلا إلا بزاد. ومثل هاتين المقامتين فى العناية بموضوع محدد المقامة التاسعة عشرة، وهى فى وصف الخمر وحاناتها. ودائما يتنقل الشيخ أبو حبيب فى مقاماته من بلد إلى بلد فى العالم الإسلامى منكّرا لشخصه متحولا من حيلة إلى حيلة ومن صيد إلى صيد، وفى كل صيد وحيلة يعرفه السائب بعينه ويكشف حقيقته وسره. ولم ينزل فى الأندلس سوى جزيرة طريف ونزل فى المغرب طنجة والقيروان، ونزل فى مصر الإسكندرية ودمياط وفى الشام فلسطين وحلب. ونزل فى أنحاء كثيرة من الجزيرة العربية مثل عدن والشّحر وظفار وزبيد والبحرين واليمامة، ونزل بالعراق فى بغداد وواسط والأنبار والرّقّة وحرّان، ونزل بإيران فى الأهواز وأصبهان والرىّ ومرو، وتوغل فى بلاد الترك إلى الكرج وصول وغزنة. ولا يكتفى السرقسطى بإنزال بطله فى البلدان الإسلامية والضرب فى الصحارى والقفار، إذ رأى أن يخوض به البحار وأن يضم إلى رحلاته البرية كما صنع الحريرى رحلات بحرية تأثر فيها بما كتبه أصحاب تلك الرحلات، على نحو ما يلقانا فى المقامة الرابعة والأربعين وسماها العنقاوية نسبة إلى