ونحن لا نطمئن إلى ما يروى فى كتب التاريخ والأدب من أقوال جرت على ألسنة هؤلاء الكهان والكاهنات، فإن بعد المسافة بين عصور التدوين والعصر الجاهلى يجعلنا نتهم مثل هذه الأقوال، إذ من الصعب أن تروى بنصّها وقد مضى عليها نحو قرنين من الزمان. وإنما استشهدنا ببعض منها لندل على أنه ثبت فى أذهان من تحدثوا عن الكهّان والكاهنات فى الجاهلية أنهم كانوا يعتمدون على السجع فى كلامهم، ولذلك حين أجرو ألسنتهم بالكلام جعلوه مسجوعا على شاكلة ما رويناه من أقوالهم. ومعنى ذلك أنه وجد فى العصر الجاهلى سجع كان يقوله الكهان، وقد اختلط الأمر على بعض قريش فى أول نزول الذكر الحكيم، فقرنوه بسجع كهنتهم وردّ عليهم القرآن الكريم بمثل قوله جلّ وعز: {وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ»} وقال سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ، فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ»} وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ»}.
ومما يدلّ على أن كهنتهم كانوا يسجعون، بل كانوا لا يتكلمون إلا بالسجع، الحديث المروىّ عن أبى هريرة، فقد حدّث أنه «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما فى بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرّة: عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها (?). . . فقال حمل بن النابغة الهذلى: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلّ (?)، فمثل ذلك يطلّ (?)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهّان، من أجل سجعه الذى سجع (?)». ويقول الجاحظ: «كان حازى (كاهن) جهينة وشقّ وسطيح وعزّى سلمة وأشباههم يتكهنون ويحكمون بالأسجاع (?)»
وإذا صح أن ما يروى فى كتب التاريخ والأدب من سجع الكهان تقليد دقيق لما كانوا يأتون به من هذا السجع لا حظنا أنهم لم يكونوا يسجعون فحسب،