كما يقول فى موضع آخر إنهم كانوا يستخدمون الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، بينما كانوا يستعملون المنثور المرسل فى خطب الصلح وسلّ السخيمة وعند المعاقدة والمعاهدة. وكأنهم عرفوا فى الجاهلية لونين من الخطابة لونا مسجوعا ولونا مرسلا.

ولا تظن أنهم فى خطابتهم المرسلة لم يكونوا يروّون فقد كانوا يعمدون إلى ما يثير السامعين من كلم بليغ، حتى يؤثروا فيهم ويبلغوا ما يريدون من استمالتهم، يقول الجاحظ: «لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم فى طوال القصائد وفى صنعة طوال الخطب، وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأى فى معاظم التدبير ومهمّات الأمور ميّثوه (?) فى صدورهم وقيدوه على أنفسهم، فإذا قوّمه الثّقاف، وأدخل الكير، وقام على الخلاص أبرزوه محكّكا منقحا ومصفّى من الأدناس مهذبا (?)».

ومن يقرأ الفقر القصار والمحاورات المختصرة التى بقيت من تراثهم، تلك التى يرويها الجاحظ، يشعر حقّا أنهم كانوا يبتغون التجويد فى كلامهم، تارة بما يصوغونه فيه من سجع، وتارة أخرى بما يخرجونه فيه من استعارات وأخيلة.

ودائما يعنون ببهاء اللفظ وقوته ونصاعته، كما يعنون بوضوح الحجة. وتصوّر أشعارهم جوانب من ذلك كقول لبيد لهرم بن قطبة حين احتكم إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة (?):

إنك قد أوتيت حكما معجبا … فطبّق المفصل واغنم طيّبا

وواضح أنه يقول له: إنك قد أوتيت حكما فاصلا قاطعا يفصل بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين. ومن ذلك قولهم فلان يفلّ المحزّ ويصيب المفصل ويضع الهناء مواضع النّقب (?). والعبارة الأخيرة مستعارة من صنيع الحاذق حين يلم الجرب بإبله فيضع دواءه فى مواضعه الدقيقة. يمثلون بذلك للمصيب الموجز فى خطابته وبيانه، كما مثلوه فى التعبيرين الأولين بالجزار الحاذق الذى يصيب عين الموضع من جزوره سواء فى العظم أو فى اللحم. وقد يشبهون كلامهم بالسهام المصمية، ومن ثم استخدموا كلمة مدره للشجاع والخطيب المفلق فى الوقت نفسه، وأصل معناها المرامى، فاستعيرت من رامى السهام لرامى الكلام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015