وحرى بنا أن نشير إلى ما ذكرناه فى كتابنا المقامة من أن المقامة الإبليسية لبديع الزمان هى التى أوحت لابن شهيد الأندلسى وأبى العلاء المعرى رحلتهما فيما وراء الطبيعة، فإن بديع الزمان تصور فى مقامته عيسى بن هشام يلتقى بإبليس فى واد من وديان الجن، إذ ضلّت منه إبل فخرج يطلبها، حتى نزل فى واد حافل بالأشجار والأنهار. وبينما هو ينظر من حواليه إذ رأى شيخا جالسا فسلّم عليه وردّ السلام، وسأله ابن هشام هل تروى من أشعار العرب شيئا؟ قال نعم وأنشده بعض أشعارهم، وعرض عليه أن ينشده من شعره وهشّ له ابن هشام، فأنشده قصيدة لجرير، وعجب ابن هشام من انتحاله لها، ويدور بينهما حوار يقول له فيه إبليس «ما أحد من الشعراء إلا ومعه معين منا، وأنا أمليت على جرير هذه القصيدة، وأنا الشيخ أبو مرّة». ويغيب عنه، ويجد عيسى بن هشام نفسه وحيدا. وقد استوحى ابن شهيد هذه المقامة فى رسالته «التوابع والزوابع» أى الجن والشياطين، وهو فيها يلقى شياطين الشعراء فى وادى الجن، وكلما لقى شيطانا لشاعر أنشده من شعر صاحبه، ثم أنشده من شعره، فيبدى إعجابه به ويجيزه اعترافا بروعة شعره، ولقى شياطين الكتاب كما لقى شياطين الشعراء، وعرض عليهم بعض رسائله، ولقى شيطان بديع الزمان الذى سمّاه «زبدة الحقب»، ويحاول أن يعرض عليه بعض عباراته النثرية التى يحاكيه فيها، ويعترف له زبدة الحقب بحسن بلاغته، ويجيزه على إبداعه. والصلة قوية بين هذا العمل لابن شهيد وبين المقامة الإبليسية، فهما جميعا يتخذان لقاء شياطين الشعراء فى وادى الجن موضوعا لهما، ويلقى ابن شهيد شيطان بديع الزمان مما يؤكد صلته بآثاره، وأنه يعارض مقامته الإبليسية بتوابعه وزوابعه. وتجادل الباحثون طويلا هل ابن شهيد هو الذى ألهم أبا العلاء رسالة الغفران وما صوّر فيها من رحلة وراء الطبيعة يوم البعث وعلى الصراط وفى الجنة، أو أن أبا العلاء هو الذى ألهم ابن شهيد رحلته وراء الطبيعة فى وادى الجن؟ . ولعل فيما ذكرناه ما يبطل هذا النزاع والجدال، فإن بديع الزمان هو الذى استغلّ لأول مرة الحديث عن وديان الجن وشياطين الشعراء فى مقامته الإبليسية، ثم جاء بعده ابن شهيد وأبو العلاء المعرى فى القرن الخامس الهجرى، فألف كل منهما رحلة فيما وراء الطبيعة، ويتضح أثر البديع بقوة فى ابن شهيد لأنه التقى مباشرة مع البديع فى وادى الجن، أما أبو العلاء فاستقل برحلته عن هذا الوادى، واتخذ لها مضمونا أشمل وأبعد وأوسع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015