ثيابا). قال عيسى بن هشام: فوالله ما استأذن على حجاب سمعى كلام رائع أبرع؛ وأرفع، وأبدع، مما سمعت منه. لا جرم أنا استمحنا الأوساط (يريد الأحزمة وما فيها من نقد) ونفضنا الأكمام، ونحّينا الجيوب ونلته (أعطيته) أنا مطر فى (ثوبى) وأخذت الجماعة إخذى، وقلنا له: الحق بأطفالك، فأعرض عنا بعد شكر وفّاه، ونشر (ثناء) ملأ به فاه».
وواضح ما يمتاز به البديع فى مقاماته من خفة روح وميل إلى الدعابة، حتى يدخل السرور على سامعيه وترتسم البسمات على شفاههم. ويكثر من إنشاد الشعر فى المقامات، ومن حلّ بعض الأبيات المشهورة، على نحو ما صنع بقوله: «وأتلانى زغاليل حمر الحواصل» يريد أولاده وأنهم مثل زغاليل قريبة عهد بالولادة، فحواصلها لا تزال حمراء خالية من الريش، والصورة استعارها من الحطيئة حين حبسه عمر بن الخطاب، فتوجه إليه يستعطفه لأولاده قائلا:
ماذا تقول لأفراخ بذى مرخ … زغب الحواصل لا ماء ولا شجر (?)
وكانت للبديع موهبة قصصية رائعة، غير أنه لم يستغلها فى مقاماته بالمقدار الذى كان يظنّ، إذ لم يضع فى ذهنه صنع قصص وحكايات، إنما الذى وضعه وجعله نصب عينيه أن يتخذ من حوار المقامة القصير بين عيسى بن هشام وأبى الفتح وسيلة لحشد عبارات مسجوعة طريفة تتحفظها الناشئة. وجاراه الحريرى وغيره فى صنع هذه الأقاصيص القصيرة البلاغية، وعدّوها أروع صور النثر وأبلغه، غير حافلين بعمل قصص طويلة أو حتى قصص قصيرة متنوعة. وبدأ البديع فوضع هذه الأقاصيص القصيرة أو هذه المقامات فى إطار السجع، وتبعه خالفوه. وهو يضيف إلى السجع-كما رأينا فى رسائله- ألوان البديع من الأخيلة والتصاوير ومن الجناس ومراعاة النظير، وألهاه الحوار القصصى عن المبالغة فى ذلك. ولا ريب فى أن سجعه فى مقاماته-كرسائله-سجع رشيق، لما يمتاز به من قصر ومن حسن انتخاب لألفاظه. وقد يتخلل بعض مقاماته بالشعر، كما قد يحشد فيها ببعض ألفاظ غريبة، على نحو ما نقرأ فى المقامات: الحمدانية والموصلية والقردية.
وربما دفعه إلى ذلك مقصد تعليمى، وهو مقصد تأثر فيه بأحاديث ابن دريد المفرطة فى الغرابة. غير أن ذلك إنما يأتى فى المقامات التى سميناها وفى الحين البعيد بعد الحين، بحيث لا تعدّ عيبا فى أساليبه التى تطبعها-كما قلنا-الرشاقة، وأيضا الخفة والعذوبة وروح الفكاهة المرحة المحببة لكل إنسان.