إلا استولى عفوا على غايات احتياله وأقاصيه، ومكّن منه القضاء سمحا فاستنزل عن معاقله وصياصيه (?)».

وواضح أنه تمثّل طريقة أستاذه ابن العميد، فهو يعنى أشد العناية بانتخاب ألفاظه، حتى يكون بناء رسالته فى هذا الفتح قويا سامقا. ويعنى بأسجاعه، فهى تتقابل وتتوازن مهما طالت، كقوله: «وأولاها إذا تصفّحت المواهب أخذا بحظ السابق، وأولاها إذا تتبّعت المنائح فوزا بالعز الشاهق» وكل كلمة فى العبارة الثانية تكاد تتشابك بالأيدى مع قرينتها فى العبارة الأولى. ومثلها السجعة التالية: «وأحراها بأن تثنى عليها ألسنة الأيام والليالى، وتثنى إليها أعناق المحامد والمعالى» وكأن الكلمات فى العبارتين تتعانق. واستمر فى قراءة الأسجاع الطويلة فى هذا الفصل وفى رسائل الصاحب، فستجد دائما هذا التعانق والتشابك بين كلمات السجعات، وحقّا ابن العميد بدأ ذلك ولكن الصاحب اتسع فيه سعة شديدة. ولابد أن القارئ لاحظ كثرة استخدامه للتصوير منذ فاتحة المطلع، فالنعم ذات غرر وأوضاح كخيل الحرب الظافرة، بل هى كالصباح الجميل البهيج، وتتوالى الأخيلة والصور فى المقطع. ويكثر فيه الجناس مثل غوره وطوره، والأمّة والغمّة، وينازع ومنازع، ويمانع وممانع، ويحاول أن يأتى بغرائب فى الجناس تخلب ألباب السامعين، فيعمد إلى المغايرة بين كلمتين لا فى بعض الحروف ولكن فى بعض الحركات كما فى «أولاها، وأولاها» و «تثنى وتثنى». وجعلته قدرته على حشد السجعات يكثر من الجمل الاعتراضية فى رسائله على نحو ما يتضح فى مطلع هذا المقطع، فقد بدأه بمبتدأ هو «أحسن نعم الله» وفصل بينه وبين خبره، وهو «نعمة صادفت حمدا وشكرا» بنحو ثلاثة أسطر، ونقده أبو حيان، وقال إن هذا يحدث تعاظلا فى أساليبه (?). وفى رأينا أنه مقبول ما لم يطل الاعتراض طولا شديدا، وهو نادر عنده. على أن هذا الجانب فى أساليبه شاع فيما بعد بين كتّاب العصور التالية وخاصة عند العماد الأصفهانى والقاضى الفاضل. وليس معنى ذلك أن الصاحب وضع مبدأ طول عبارات السجع، بل هى تطول أحيانا، وأحيانا تقصر كما فى هذا المقطع نفسه إذ يقول: «نعمة السجع، بل هى تطول أحيانا، وأحيانا تقصر كما فى هذا المقطع نفسه إذ يقول: «نعمة صادفت حمدا وشكرا، وجمعت فتحا ونصرا، ونظمت نجحا وقهرا». وتكثر هذه السجعات القصيرة فى رسائله الإخوانية، كقوله فى عزاء ابن عن أبيه، وكان عالما نحريرا:

«للفجائع اختلاف مواقع، وللمصائب تباين مراتب، ومن أشدها لذعا، وأعظمها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015