فجاوزها إلى قرية غامرة وماء ملح لا لشئ إلا ليكتب إلينا: «كتابى هذا من النّوبهار، يوم السبت فى نصف النهار». وقالوا إن سجعة اضطرته إلى عزل قاضى مدينة قم، فقد كان فى حضرته، فقال له: أيها القاضى بقم، وأراد أن يكمل السجعة، فأعياه إكمالها، فقال: قد عزلناك فقم. ولعل هاتين النادرتين جميعا من وضع خصمه أبى حيان، وفى تكلفه للسجع يقول: «كان كلفه بالسجع فى الكلام والقول عند الجد والهزل يزيد على كلف كل من رأيناه فى هذه البلاد. . قلت لابن المسيّبى: أين يبلغ ابن عباد فى عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة تنحلّ بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل، وكلفة صعبة، وتجشّم أمور، وركوب أهوال، لما كان يخفّ عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتى بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها». وكل هذه مبالغات فإن من يرجع إلى الرسائل المنشورة يجد الصاحب يترك نفسه على سجيتها، فإن واتاه السجع مضى فيه، وإن لم يواته استخدم أسلوب الازدواج، وإن كان ذلك لا يأتى إلا نادرا، فالصورة العامة لرسائله هى السجع والبديع والتفنن فى استخدامهما تفننا يدل على مهارة واسعة، حتى غدا ذلك كأنه طبع من طباعه وسجية من سجاياه. وأول ما يلقانا فى رسائله رسالته التى وصف فيها انتصار جيوش مؤيد الدولة على جيوش أخيه فخر الدولة وحليفه قابوس بن وشمكير، ومقطعها الأول يجرى على هذا النمط:
«أحسن نعم الله تعالى غررا وأوضاحا، وأبينها فلقا وصباحا، وأولاها إذا تصفّحت المواهب أخذا بحظ السابق، وأولاها إذا اتتبّعت المنائح فوزا بالعز الشاهق، وأحراها بأن تثنى عليها ألسنة الأيام والليالى، وتثنى إليها أعناق المحامد والمعالى، نعمة صادفت حمدا وشكرا. وجمعت فتحا ونصرا، ونظمت نجحا وقهرا، واستذلّت ممتطيا للجحود لاهيا عن غوره، مستشريا فى الغموط عاديا لطوره. وتلك النعمة عند مولانا الملك السيد إذ عضد الدولة، وتوّج الملّة، وحرس الأمّة، وزحزح الغمّة، ورفد الخلافة، وبسط العدل والرّأفة، وطهّر البلاد، وعمر الحج والجهاد، وساس الجمهور، وسدّ الثغور، فشهدت فتوحه بأنه مؤيّد من عند الله، ومحوط الملك بيد الله، لا ينازع رأيه منازع إلا تلّ لجبينه (?)، وعوجل بقطع وتينه (?)، ولا يمانع رايته ممانع إلا غلّت يده دون مطلبه، واقتطع أمده عن مهربه، ولم يعزّ بالتحصن عليه مارق، والتمنّع دونه مشاقّ مفارق،