واحتفظوا فيها أحيانا بوصف الأطلال نافذين إلى خواطر بديعة. وظلوا يستطردون إلى وصف الصحراء، واتسعوا فى وصف الربيع والطبيعة الحضرية والأعياد وملاهيها.
ونشط الهجاء، وكانوا يعمدون فيه إلى التهوين والتحقير، ونفذ فيه ابن الرومى إلى نوع جديد من الهجاء الساخر. وظل الفخر نشطا، واحتدم الرثاء، وتفجّعوا على أبنائهم تفجعا مريرا، كما تفجعوا على البصرة حين هوت تحت أقدام الزنج. ولابن العلاّف مرثية فى هرّ تعدّ من عيون الرثاء ودرره. وصوّروا فى عتابهم واعتذاراتهم رقة أهل الحضر ودمائتهم. وظل للغزل ازدهاره سواء الغزل العفيف الطاهر أو الغزل المادىّ الماجن، ونفذوا فيه إلى كثير من دقائق المعانى والأخيلة، ولكثيرين منهم خمريات تطفح بالمتاع الآثم. ونشط شعر الزهد نشاطا واسعا. وأكثروا من التهانى والتراسل بالأشعار مع الهدايا، وللبحترى وصف رائع لإيوان كسرى. ولهم أشعار كثيرة فى وصف قصور الخلفاء وبذخهم فى البناء، وأكثروا من وصف الطبيعة والورود والرياحين، كما أكثروا من وصف الوحش والصيد وكلابه والأطعمة على اختلاف ألوانها والملاهى، وفسحوا للشكوى من الزمن ولوصف الأخلاق ولشعر التصوف وللشعر التعليمى على نحو ما يلاحظ عند ابن الجهم وابن المعتز فى نظمهما للتاريخ، وعند ابن دريد فى نظمه للمعارف اللغوية.
وأعلام الشعراء فى العصر على بن الجهم والبحترى وابن الرومى وابن المعتز والصّنوبرىّ، فأما ابن الجهم فقرشى الأصل ولد ونشأ ببغداد، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، فمدح المعتصم والواثق ويتخذه المتوكل جليسا ونديما بينما يدبّج فيه المدائح والأشعار وقد اندفع وراء المتوكل فى الهجوم على المعتزلة والعلويين والنصارى، فتكاثر خصومه، وسعوا به عند المتوكل فأمر بحبسه عاما، ثم نفاه إلى خراسان. وعاد منها إلى بغداد ثم رأى الاشتراك فى نضال البيزنطيين، ولكنه قتل دون غايته. وأروع أشعاره ما نظمه فى الاستعطاف وليالى الأنس بالكرخ، وأكثرها توهجا تصويره لصلابة نفسه حين سجن وصلى نار النّفى، وكأنما كان صخرة عاتية لا تستطيع الكوارث والمحن أن تمسّ نفسه.
وكان البحترى عربيّا شاميّا من طيئ، سال الشعر على لسانه مبكرا، وفى حلب تعرّف بفتاة تسمّى علوة، ظلت لا تبرح ذاكرته، ولقى فى حمص أبا تمام حامل لواء الشعر فى عصره غير مدافع، واستمع إلى شعر الفتى الناشئ،