فى بيئات اللغويين المحافظين والمترجمين والمتفلسفة المجددين والمعتزلة المعتدلين، ويتم الغلب للأخيرين، ويكتب ابن المعتز كتابه الطريف «البديع» ويخطو النقد خطوات نحو تقنين مبادئه، ويشاطر فيه الجاحظ مشاطرة قوية يتأثره فيها ابن قتيبة، ويصدر قدامة كتابه «نقد الشعر». وتنشط الكتابة التاريخية فى السيرة النبوية وفى تاريخ الأمم والدول وتاريخ المدن وسير الرجال وتراجم الشعراء. وينهض علم القراءات ويفرض ابن مجاهد القرّاء السبعة المشهورين على العالم العربى الذى ارتضى ما أدّى فى ذلك من جهد علمى خصب. ونهض التفسير بدوره على يد أهل السنة والمعتزلة والصوفية، وبالمثل نهض تدوين الحديث، ووضعت فيه كتب الصحاح الستة.
وظلت الدراسات الفقهية مزدهرة، وظهرت فيها مذاهب صغرى أهمها مذهب داود الظاهرى الذى كتب له الذيوع فى الأندلس والمغرب وخاصة فى عصر دولة الموحدين. وعلى الرغم من إعلاء الدولة لأهل السنة على المعتزلة ظل لهم نشاطهم، وظهر بينهم أئمة مرموقون على رأسهم أبو على الجبّائى وابنه أبو هاشم، وتفرّع حينئذ من الاعتزال المذهب الأشعرى الذى يتوسط بين آراء المعتزلة وآراء أهل السنة، والذى كتب له الانتشار فى العالم الإسلامى.
ويظل للشعر نشاطه وازدهاره، ويظل اللغويون يقدّمون للشعراء دراسات تمكنهم من إتقان العربية على خير وجه والوقوف على كثير من أسرارها التركيبية والموسيقية، ودعم هذا الوقوف مباحث النقاد والبلاغيين وملاحظاتهم على الخصائص الجمالية للبيان العربى. وأخذت تنشأ عربية مولّدة ولكنها لم تجر على ألسنة الشعراء ولا أدخلت على أساليبهم شيئا من الضّيم، إذ كانوا يتمثّلون العربية بخصائصها الجمالية والموسيقية تمثلا تامّا. وتعمق الشعراء الثقافات الأجنبية والمباحث الفلسفية، مما جعل عقولهم تحفل بذخائر خصبة من الأفكار الدقيقة والتقسيمات الطريفة والبعد فى الخيال إلى درجة الوهم وكثرة التوليدات العقلية، وحتى البحترى الذى اشتهر بمحافظته على أصول الصياغة الموروثة للشعر العربى يمسّه حظ من الثقافات المعاصرة.
وكان حظ ابن الرومى وافرا، ولذلك كثرت عنده العلل والأقيسة والأخيلة المبتكرة والقدرة على مدح الشئ وذمه. وظل الشعراء يبالغون فى مديح الخلفاء حتى ليسبغون عليهم صفات قدسية، وسجّلوا فى مدائحهم البطولات الحربية،