والشعوبية والزندقة حادّة فى العصر، وكانت ضاحية الكرخ والبساتين والأديرة تمتلئ بحانات الخمر، وكان الناس يقصفون ويمرحون فى أعياد الإسلام والمسيحية والمجوس.
وكانت نار الشعوبية لا تزال متّقدة، وصبّ عليها الجاحظ وابن قتيبة مياها كادت تطفئها إلا قليلا، ولذلك قلما نسمع بها بعد هذا العصر إنما نسمع عن الإلحاد والزندقة، ومن رءوس الزنادقة الملحدين فى العصر ابن الرّاوندى ومحمد بن زكريا الرازى. ولم يكن هذا كله الصوت القوىّ فى الأمة، إنما كان الصوت القوى هو الانصراف عن المجون وكل ما يتبعه من إثم والعكوف على الدين الحنيف والاستماع لوعّاظه والالتفاف حول عبّاده ونسّاكه، وهيأ ذلك لاتساع حركة التصوف، وكانت قد بدأت مع أواخر القرن الثانى الهجرى ولكنها تأخذ حقّا فى الازدهار بهذا العصر، إذ أتيح لها أعلام أرسوها، بحيث أصبحت لها قواعد وأصول ثابتة.
ونشطت الحياة العقلية نشاطا واسعا، وكانت المساجد أشبه جامعات حرة، والطلاب يفنون عليها من كل صوب متحولين من حلقة إلى حلقة ناهلين ما يشاءون من العلوم اللغوية والشرعية والكلامية. وقامت بجوار المساجد دكاكين الوراقين التى كانت تحفل بكتب العلماء من كل صنف وبما ترجم من علوم الأوائل وثقافات اليونان والفرس والهند. وتأسست مكتبات كثيرة منها ما كان عامّا مثل خزانة الحكمة، ومنها ما كان خاصّا لبعض الأفراد.
وتروى أقاصيص كثيرة عن شغف الناس بالعلم ورحلتهم فى سبيله وانقضاضهم-حتى العامة منهم-عليه انقضاض الأسد على فريسته، ولعل ذلك ما جعل الجاحظ وابن قتيبة يحاولان تقريب الثقافة إلى الشعب، حتى يتزوّد منها بطرق يسيرة سهلة. ويظل نقل الثقافات الأجنبية وخاصة الثقافة اليونانية محتدما، ويتطور النقل من النقل الحرفى إلى نقل معانى الفقر بحيث تصبح صياغة الكتب المترجمة ناصعة شديدة النصوع. ونهضت العلوم الطبيعية والطبية حينئذ نهضة واسعة، وليس ذلك فحسب، فقد أصبح للعرب بدورهم فلاسفة نابهون مثل الكندى فى أوائل العصر والفارابى فى أواخره. وتزدهر العلوم اللغوية والنحوية، فتشرح النصوص القديمة شروحا موسّعة، وتوضع بعض المعاجم، وينشط تلامذة المدرستين البصرية والكوفية فى النحو، وتنشأ المدرسة البغدادية. وتكثر حينئذ المباحث البلاغية