«وصل كتابك بالتعزية عن أخى، وقد جلّت مصيبتى به وعظمت، فنكأت (جرحت) القلب، وهدّت الركن، وأذهبت القوة، ونغّصت العيش، وأزرت بالأمل. فعند الله أحتسبه، وإياه أسأل تفضلا عليه، وصفحا عنه، وتغمدا (غفرانا) لذنوبه، وصبرا على حادث قضائه فيه، واستعدادا للموت وتأهبا له، فإنه مصرع لا بدّ منه، ومورد لا محيص عنه».
والانسجام واضح بين الكلمات والعبارات، فقد صوّر حزنه على أخيه بجمل متناسقة، ولا شك فى أنه بذل جهدا عنيفا فى اجتلابها ووضعها متلاحقة، وكل جملة تضيف خطّا إلى لوحة الحزن السوداء، فعبارة تحمل جرح القلب، وثانية تحمل انهداد الركن، وثالثة تحمل ذهاب القوة، ورابعة تحمل تنغص العيش، وخامسة تحمل الإزراء بالأمل. ويتجه إلى الله بجمل مماثلة يدعو فيها لأخيه ولنفسه أما أخوه فيدعو له بالتفضل عليه والصفح عنه، والغفران لذنوبه، ثلاث دعوات ويقابلها لنفسه ثلاث أيضا: الصبر على حادث القضاء، والاستعداد للموت بالعمل الصالح، والتأهب له. وهكذا كل عبارة وكل كلمة كأنما توضع بميزان دقيق يزنها فى عبارتها، ويزن عبارتها بالقياس إلى قرينتها أو قرائنها. ويذكر صاحب معجم الأدباء أن البحترى هجا بنى ثوابة فى قصيدة له فبعث إليه أبو العباس يترضّاه بهدية نفيسة فردّها وقال لحاملها قل لأبى العباس: قد أسلفتكم إساءة فلا يجوز معها قبول صلتكم، فكتب إليه:
«أما الإساءة فمغفورة، والمعذرة مشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو (يداوى) جراحك مثل يدك، وقد رددت إليك ما رددته علىّ، وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا».
فقبل البحترىّ ما بعث به ووعد أبا العباس أن يأتيه ثناؤه ومديحه. والكلمات التى كتب بها إلى البحترى تحمل نفس خصائصه من وزن الكلام بقسطاس، وجعله القسطاس هذه المرة يلائم أشد الملاءمة بين العبارات، فإذا هى تأخذ صورة سجع خالص، وهو سجع حافل بالعذوبة. ولا نبالغ إذا قلنا إن أبا العباس كان أحد من أعدوا بقوة فى القرن الثالث الهجرى لشيوع السجع وانتشاره.