الدماثة والحسّ المفرط والشعور الحاد. وله من فصل فى رسالة كتب بها إلى نفس الوزير عبيد الله بن سليمان، يقول فيه (?):
«لم يؤت الوزير من عدم فضيلة، ولم أوت من عدم وسيلة، وغلّة (حرارة) الصّادى (العطشان) تأبى له انتظار الوارد، وتعجل عن تأمل ما بين الغدير والوادى، ولم أزل أترقّب أن يخطرنى بباله، ترقب الصائم لفطره، وأنتظره انتظار السارى لفجره، إلى أن برح (انكشف) الخفاء وكشف الغطاء، وشمت الأعداء، وإن فى تخلفى وتقدّم المقصّرين لآية للمتوسّمين، والحمد لله رب العالمين».
والفصل مكتوب بكل دقة، فالوزير لم ينسه نقصا فيه إذ اكتملت فضائله وأوفت على الغاية، وهو لم يؤت من نقص، فبلاغته ذائعة معروفة يعرفها القصىّ والدانى، وإذن فليبحث عن علة، ويقول إن الحرارة المشتعلة فى صدر العطشان تدفعه إلى عدم الانتظار لما قد يرد عليه، وتعجله عن النظر فيما بين الغدير والوادى من خيرات ومياه وطيبات. ويمضى فيقول إنه كان يترقب إقباله ترقب الصائم الجائع لفطره والسارى بالليل الداجى لفجره، غير أن أضواء الصباح العابس تفلّتت من الأفق، فاتضح الخفاء وانكشف الغطاء وأن الوزير لن يشمله برعايته، وشمت الأعداء. وكأنما يعاتب عبيد الله بكل ذلك عتابا رفيقا وهو يختمه بقوله إنه أصبح فى عداد المتخلفين، بينما تقدّمت فى رحاب الوزير كثرة من المقصّرين الذين لا يبلغون شأوه، ويقول إن فى ذلك لآية للناظرين، ولا ينسى حمد الله رب العالمين الذى لا يحمد فى مكروه سواه. والعبارات فى الفصل متسقة اتساقا وثيقا، إذ لاءم أبو العباس بينها بقسطاس دقيق، ونحسّ انسجاما بين الكلمات منذ العبارتين الأوليين، وهو انسجام انتهى بهما إلى أن تصبحا سجعتين.
ويضيف إلى ذلك فى العبارتين التاليتين مادة تصويرية طريفة، حتى إذا سوّاهما تلاهما بعبارات يلتحم فيها السجع والتصوير معا. وبذلك يبلغ أبو العباس بن ثوابة صاحب الدماثة المفرطة والرقة المتناهية كل ما كان ينتظر له من تأنق فى التعبير الأدبى، إذ يتحول عنده إلى زخرف خالص، زخرف يحمل كل ما يريد من وشى السجع ووشى الصور النادرة. وله من جواب عن تعزية (?).