نزلها سنة 251 بعدا عن سامرّاء مدينة الترك وبغيهم، فبايعوا المعتز، ونازلوا ابن طاهر ببغداد فهزمهم، حينئذ نراه يأمر سعيد بن حميد بكتابة رسالة تذكر الوقعة حتى تقرأ على أهل بغداد فى مسجد جامعها، وهى رسالة طويلة طولا شديدا نقتطف منها بعض الفقر التالية:
«ساروا نحو مدينة السلام (بغداد) معلنين للبغى والاقتدار، مظهرين للغىّ والإصرار، فتأنّاهم أمير المؤمنين (المستعين) وفسح لهم فى النّظرة، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد. . . وأن يبيّن لهم ما سلف من بلائه عندهم من أسنى المواهب، وأرفع الرّغائب، والاختصاص بسنىّ المراتب، والتقدم فى المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسكا بالغىّ وإصرارا. . . وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار فى الباطل. . .
وصدقهم أولياء الله (جنود المستعين وابن طاهر) فى لقائهم بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم، فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرّة بعد كرّة، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسّهم ألم جراحها وكلمتهم (جرحتهم) الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمد لهم أبناؤها ظمأ إلى دمائهم، ولّوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصّنوا من عقابه بإنابة. . . فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجئ من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود (موثق بالأغلال) يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة نفسه. . . فرقا أربعا تجمعها النار، ويشملها عاجل النكال عظة ومعتبرا لأولى الأبصار».
وواضح تقطيع العبارات وتقابل الكلم فى الرسالة، وكأننا بإزاء حائك، يقيس ثيابا متماثلة مقدّرة على معانيها. وقد يتكامل التقطيع، فيظهر السجع، ولكنه ليس سجعا متكلّفا، فليس مردّه إلى محاولة صنعة، وإنما مرده إلى دقة التقطيع، حتى لتأخذ العبارات شكل سجعات متوالية. وما نزال نتنقل بين تقاطيع طريفة، حتى نصل مع سعيد إلى تقسيم الجيش الذى دارت عليه الدوائر أقساما أربعة: