ما استغلّ قراد الترك: إيتاخ وصاحباه وصيف وبغا الكبير هذه الفرصة حين توفى سنة 232 للهجرة، إذ حملوا رجال الدولة على البيعة للمتوكل، وكان ذلك نذير شؤم إذ أصبحت تولية الخلفاء فيما بعد بيد الترك، وعما قليل سيصبح عزلهم-كما سنرى-بأيديهم، وبذلك يتحول إليهم السلطان جميعه، ونصبح منذ خلافة المتوكل بإزاء عصر جديد هو العصر العباسى الثانى.
ويبدو أن المتوكل تنبّه-منذ استيلائه على الحكم-إلى خطورة ازدياد النفوذ التركى، مما دفعه إلى التخلص سريعا من إيتاخ، وكان قد صار إليه أمر الجيش والأتراك والمغاربة والموالى وديوان الخبر أو البريد والحجابة والقيام على دار الخلافة، وكأنه نائب للخليفة. بل لكأنما أصبح الخليفة ولا سلطان له، مما جعل المتوكل يوحى إلى بعض أوليائه أن يشيروا على إيتاخ بالاستئذان للحج، وما إن خرج من سامراء وأبعد فى الطريق إلى مكة حتى عزله المتوكل عن الحجابة وولاها وصيفا التركى (?). وهى سياسة سيتّبعها الخلفاء بعد المتوكل أن يضربوا قواد الأتراك بعضهم ببعض. وعاد إيتاخ من الحج ودخل بغداد فقبض عليه حاكمها بأمر من المتوكل وأودعه غياهب السجون مقيدا بالحديد إلى أن توفى لسنة 235. ولكن المتوكل لم يسدّد للترك ضربة قاضية، بل أخذ يراوغهم، مما جعله يضيف بغا الكبير إلى وصيف فى الحجابة. وتتوالى السنوات وهو ضيّق بقادة الترك ويفكر فى التخلص منهم جميعا ويهديه تفكيره فى سنة 243 أن يترك سامرّاء ويتخذ دمشق حاضرة له، حتى يصبح بمنأى عن الترك وشرورهم، ويشخص إليها فى ذى القعدة، ويبدو أن فكرته ذاعت فى الناس مما جعل يزيد بن محمد المهلبى ينشد من قصيدة طويلة (?):
أظنّ الشام تشمت بالعراق … إذا عزم الإمام على انطلاق
فإن تدع العراق وساكنيها … فقد تبلى المليحة بالطلاق
ودخل المتوكل دمشق فى صفر لسنة 244 عازما على المقام بها ونقل دواوين الخلافة إليها، وأمر أن يبنى له بها بعض القصور. غير أن الترك فطنوا لمأربه، وأنه يريد الإطاحة بهم فطالبوا برواتبهم، وهو سيف سيظلون يشهرونه على الخلفاء