لظهور تيار شعوبى بغيض رافقه تيار إلحاد وزندقة لا يقلّ عنه عنفا ولا محاولة لهدم الإسلام والعروبة جميعا. وفى أثناء ذلك كانت الثورات مضطرمة في شرقى الدولة، وكلما خمدت ثورة اندلعت أخرى، وكان آخرها اندلاعا ثورة بابك الخرّمى فى آذربيجان التى ظلت نحو عشرين عاما والتى كلفت الدولة كثيرا من الجيوش إلى أن سحقها المعتصم وقواده سحقا.
وقد أخذ المعتصم حينئذ يفكر فى عنصر جديد يعتمد عليه فى حروبه سوى الفرس، فثوراتهم لا تنقطع، وأمانيهم فى إحياء مجدهم القومى لا تخمد، واستظهارهم للشعوبية والزندقة لا تهدأ فورته، وهداه تفكيره إلى الاعتماد على عنصر من الرقيق اشتهر لعصره بالصبر تحت ضلال الرماح، مع حذقه بالرمى يمنة ويسرة ومقبلا ومدبرا، وهو الرقيق التركى الذى كثر توافده على بغداد والعراق، فأخذ يستكثر من شرائه وطلبه من سمرقند وفرغانة وأشروسنة إلى أن بلغت عدّته ثمانية عشر ألفا (?)، وكل يوم يزيد، حتى ضاقت به بغداد وشوارعها. وكان جمهور هذا الرقيق بدوا جفاة فكانوا يركبون الخيل ويركضونها فى الشوارع فتطأ بعض الشيوخ والأطفال والنساء، مما اضطر المعتصم أن يبنى لهم مدينة سامراء (?) شمالى بغداد، وانتقل معهم إليها، وظلت حاضرة للخلفاء حتى أواخر عهد المعتمد سنة 276 للهجرة.
وكان ذلك تحولا خطيرا فى تاريخ الدولة العباسية، فقد كانت تعتمد كل الاعتماد على الفرس وكانوا أصحاب مدنية وحضارة فبثّوهما فى الحياة العربية، وأعدّوا لنهضة حضارية واسعة تستقى منهم ومن موارد الإسلام والعروبة ومن الثقافات الأجنبية المختلفة، وخاصة الثقافتين اليونانية والفارسية. أما الترك فلم يكونوا أصحاب ثقافة ولا مدنية ولا حضارة، إذ كانوا بدوا لا يعرفون الصناعة ولا الزراعة ولا التجارة ولا الفنون ولا الآداب ولا قواعد الملك والسياسة، إنما هم سكان صحار وقفار وحرب وجلاد وبأس ومراس، وقد صورهم الجاحظ تصويرا دقيقا فى رسالته التى