الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وما استوعبه من صنوف العلوم وذخائر الفلسفة، وقد انبرى المتكلمون معتزلة وغير معتزلة يبحثون فى الأسس التى تقوم عليها براعة القول وبلاغته، واقتبسوا كثيرا مما سجلته الأمم القديمة من أصول البيان، وعنى كتّاب الدواوين هم الآخرون بفصاحة الكلام وبلاغة القول، مما جعلهم يتحولون بدواوينهم إلى ما يشبه مدارس بيانية كبيرة. وحقّا ضعف شأن الخطابة السياسية والحفلية، غير أن الخطابة الدينية وما اتصل بها من وعظ ووعّاظ وقصص وقصّاص ازدهرت ازدهارا عظيما، كما ازدهرت المناظرات وخاصة فى بيئة المعتزلة إذ كانوا يكثرون من حوار زعماء الفرق والنّحل فى المساجد ومجالس البرامكة ومجالس المأمون، مثيرين ما لا يحصى من دقائق المعانى وخفيات الأدلة، وبلغ من إتقانهم للجدل وقدرتهم على الإقناع وإفحام الخصوم أن نفذوا كثيرا-بقصد إظهار المهارة الجدلية-إلى تقبيح الأشياء المستحسنة وتحسين الأشياء المستقبحة، مما هيأ لظهور كتب المحاسن والمساوى. واتسع نقل الآداب الفارسية وكل ما اتصل بها من عهود ملوك الفرس ووزرائهم ورسائلهم إلى العمال ووصاياهم وتوقيعاتهم، وكان لذلك أثر بعيد فيما كان يصدر عن الخلفاء والوزراء ويدبّجه الكتاب من رسائل وعهود ووصايا وتوقيعات. وكان الكتّاب يحرصون فى هذا النبر الديوانى الرسمى على بلاغة القول والتفنن فى الأفكار والمعانى، ويلقانا فى عصر كل خليفة كتّاب ذاع صيتهم وطارت شهرتهم كل مطار. وازدهرت حينئذ الرسائل الإخوانية، إذ تناول كثير من الكتاب الأغراض التى كان ينظم فيها الشعراء من ثناء وشكر وهجاء وذم وعتاب واعتذار واستعطاف وتهنئة وتعزية، وأخذوا يحبّرون فيها رسائل شخصية مفتنّين فى أساليبها البيانية وما يصوّرون بها من عواطفهم وأهوائهم. ونفذ نفر منهم إلى كتابة رسائل أدبية طريفة تتناول النفس الإنسانية وعواطفها وسلوكها وحياتها العاملة وما يهديها سبيل الرشاد. وأخذ بعض الكتّاب البارعين يحاكون ما نقله ابن المقفع وغيره إلى العربية من القصص الحيوانى والرسائل السياسية الفارسية.

وأعلام الكتاب فى العصر ابن المقفع وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وابن الزيات. أما ابن المقفع فكان فارسى الأصل ونشأ بالبصرة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015