الدنيا ومتاعها الزائل، وتعالت أصوات الوعّاظ والقصّاص وأخذت تظهر مقدمات التصوف.
وقد حدث امتزاج جنسى ولغوى وثقافى واسع بين الشعب العربى والشعوب المستعربة، إذ امتزجت به فى السكنى والتزاوج وفى الأخلاق والعادات، واتخذت لغته لسانا لها نترجم به عن ضميرها ومشاعرها وذات نفسها، وسرعان ما استوعبت تلك اللغة الثقافات التى كانت مبثوثة فى هذا المحيط الجديد سواء أكانت هندية أم فارسية أم يونانية أم دينية خالصة. ونشطت الحركة العلمية نشاطا واسعا، فشاع التعليم فى الكتاتيب والمساجد وكثر العلماء فى كل فن، وانتشر اقتناء الكتب والمكتبات الخاصة، وترجمت علوم الأوائل إلى العربية من هندية وفارسية ويونانية، وأنشأ الرشيد للترجمة دارا كبيرة هى دار الحكمة وألحق بها المأمون مرصدا فلكيّا ضخما. وأخذت توضع منذ أوائل العصر العلوم اللغوية: علوم النحو والتصريف والعروض ووضع أول معجم للعربية، وهو معجم العين المشهور.
ونمت المصنفات التاريخية. وصّنفت فى الحديث النبوى كتب جامعة. وكثرت المصنفات فى تفسير القرآن الكريم. ووضعت مذاهب الفقه الأساسية: مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعى ومذهب ابن حنبل. وأحكم المتكلمون أصولهم العقيدية وخاصة المعتزلة الذين تعمقوا فى المباحث الفلسفية.
وازدهر الشعر، وحذق الشعراء الموالى لغته، واستوعبوا مقوّماتها وخصائصها نافذين إلى أسلوب مولّد جديد، اعتمدوا فيه على الألفاظ الواسطة بين لغة العامة المبتذلة ولغة البدو الجافية، أسلوب يموج بالجزالة والرصانة حينا، وحينا بالعذوبة والنعومة. واصطبغ شعرهم ومعانيه بحكم رقيهم الفكرى بطوابع عقلية دقيقة، وقد مكن لها المعتزلة بمباحثهم العميقة وطرقهم فى الاستدلال وتوليدات المعانى وتفريعاتها المتشعبة. وظل الشعراء ينظمون فى موضوعات الشعر العربى القديمة متطورين بها قليلا أو كثيرا، وبذلك حافظوا على شخصيته الموروثة، مع الوصل بينه وبين حياتهم الاجتماعية والعقلية والحضارية. وقد اضطرم المديح اضطراما بما صوروا فيه من المثالية الخلقية والبطولات العربية والأحداث الكبيرة، وبما أضافوا إلى عناصره البدوية القديمة من عناصر حياتهم الحضارية وملكاتهم العقلية وتطور