المأمون يوقّع على الكتاب بقوله: «قد عرفنا توطئتك له، وتعريضك لنفسك، وأجبناك إليهما، ووافقناك عليهما».
وكان إيجازه المفرط مع دقته فى أداء المعانى يروع المأمون روعة شديدة، ويروى أنه أحبّ يوما أن يرى مدى مقدرته فى هذا الإيجاز، فأمره أن يكتب إلى بعض العمال فى العناية بشخص والاهتمام بأمره، وأن يوجز كتابه ما أمكنه، بحيث لا يتجاوز ما يكتبه سطرا واحدا، فكتب (?):
«كتابى إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنى بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقاية والعناية حامله. والسلام».
ولا ريب فى أن هذا الكتاب القصير-بل المفرط فى القصر-يصور مدى ما كان يبذل ابن مسعدة من جهد عنيف فى جمع المعانى الكثيرة وتركيزها فى معنى يؤديها أجمل ما يكون الأداء، سواء بما يختار من لفظ أنيق أو صورة بديعة، وكأنه لا يصوغ كلاما، وإنما يقطّر من الكلام شذى فائحا شديد التأثير فى قارئه وسامعه.
وعلى هذا النحو تحوّلت الكتب عند ابن مسعدة إلى كلمات قصار، ككلمات التوقيعات، بل لعلها أشد قصرا، وأقوى منها حدة. وما نشك فى أنه تأثر فى هذا الاتجاه بالحكم الكثيرة التى ترجمت فى عصره، على نحو ما نرى فى الأدب الصغير والكبير لابن المقفع، وكأنه أراد أن يجعل كتبه أو على الأقل طائفة منها حكما وأمثالا تدور على ألسنة الكتّاب والأدباء. وروى له ابن خلكان رسالة طويلة مسجوعة كتب بها إلى بعض الرؤساء، وقد أهمّه وأحزنه زواج أمه، لينفّس عنه، وما إن قرأها حتى سحره بيانه واعتذاره عن أمه وذهب عنه الهم والحزن. وشكّ ابن خلكان فى الرسالة وقال إنها تنسب إلى ابن العميد، وهو محق فى شكه، لسبب بسيط، هو طولها الذى لا نألفه عند ابن مسعدة، فقد كان يقبض يده عنه ولا يبسطها إلا على حروف معدودة محكمة.