فإنى سمعته يقول: البلاغة التباعد من الإطالة والتقرب من البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى. وما كنت أتوهم أن أحدا يقدر على هذه البلاغة حتى قرأت هذا الكتاب من عمرو بن مسعدة إلينا، ورمى به إلىّ وقرأته، فإذا فيه:
«كتابى إلى أمير المؤمنين، ومن قبلى من قوّاده وسائر أجناده فى الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخّرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلّت لذلك أحوالهم، والتاثت (?) معه أمورهم».
فلما قرأته قال: إن استحسانى إياه بعثنى أن أمرت للجند قبله بعطائهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حلّ محله فى صناعته.
وفى رواية أخرى أنه قال لابن يوسف: لله درّ عمرو ما أبلغه! ألا ترى إلى إدماجه المسألة فى الإخبار، وإعفائه سلطانه من الإكثار».
ولا ريب فى أن عمرا تعب طويلا فى كتابة هذا الكتاب الموجز، حتى يقع على العبارات القليلة التى تؤدى إلى المأمون امتعاض القواد والجند من تأخّر رواتبهم، وقد أخذ يحتال لإنبائه بهذا الخبر بحيث لا يضيق بهم وبحيث لا يظن أنهم عمدوا إلى شغب أو ما يشبه الشغب، فذكر أولا أنهم مذللّون له منقادون، وأنهم مستمسكون بعرى طاعته استمساكا يستغرق قلوبهم كأحسن ما يكون استمساك جيش بطاعة خليفته، ثم أتبع ذلك بتأخر أرزاقهم ورواتبهم حتى أجهدهم ما تحملوه من هذا التأخر وحتى اضطربت أمورهم، ومثلهم-مع طاعتهم وانقيادهم- حرى أن يسدّ اختلالهم وأن يرعى لهم وفاؤهم، فتعجّل رواتبهم وأرزاقهم.
وكان للكتاب أثر بالغ فى نفس المأمون إذ أمر أن تصرف للجند والقادة فى الحال أعطياتهم، لا لشهر ولا لشهرين بل لسبعة أشهر متتابعة. ويقال إنه أمر بأن يعطى لعمرو أيضا راتبه لثمانية أشهر جزاء وفاقا لحسن عرضه للمسألة ودقة تلطفه فى إيرادها وتصويرها.
ويروى صاحب (?) زهر الآداب أنه قدم على المأمون رجل من أهل الشام على عدة سلفت له منه بتوليته بلده، فطال على الرجل انتظار خروج أمر المأمون بما وعده به، فقصد عمرو بن مسعدة، وعرض عليه المسألة، وسأله