ما تدل عليه كلمة بحث، بحثا فى استقطار المعانى، بحيث لا يفوت المعنى على إيجازه الدلالة الواضحة البينة عن طائفة واسعة من الأفكار، وبحيث لا يفوت الألفاظ حمل المعنى وأداءه أداء يخلب الألباب. ولعل من الخير أن نسوق طائفة من رسائله نستشفّ منها خصائصه البلاغية، فمن ذلك ما كتب به إلى الحسن ابن سهل يستتم صنائعه عنده (?):

«أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسّس بنى، ليستتم تشييد أسسه، ويجتنى ثمار غرسه، وبناؤك عندى قد شارف الدّروس (?)، وغرسك مشف (?) على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست، وسقى ما غرست، إن شاء الله».

وواضح تأنقه فى الكتاب وتنميقه، حتى ليبنيه على السجع، وواضح أيضا تدقيقه فى اختيار الألفاظ، وأنه لا يعمد إلى الإطناب، إنما يعمد إلى الاقتصاد، مؤديا بصورتين كل ما فى نفسه، فصنائع الحسن عنده تشبه بناء، وضع أساسه، ولا بد من متابعة الإنفاق عليه حتى يرتفع فى الجو وتقوم أركانه، أو هى تشبه غرسا، لا بد له من تعهد بالماء والتربية حتى يشتد ويؤتى ثماره. ويقول إن الأساس قد أشرف على الامحاء والغرس قد أشرف على الذبول فلا تضن بالنفقة والتعهد عليهما حتى لا يضيع ما أنفقت وتعهدت أولا. أرأيت كيف أننا حين نعمد إلى فهم كلام ابن مسعدة نضطرّ إلى شئ من البسط والإطناب، وكأننا بإزاء صياغة تشبه صياغة الشعر الغنائى المركزة التى يشقلها ما تحمل من معان كثيرة فى عبارات مسرفة فى الإيجاز. ومع ذلك فالألفاظ واضحة غاية الوضوح، ولكنها مع وضوحها تحمل معانى غزيرة، مع قلة عدد الحروف والكلمات ومع سهولة الألفاظ وخفتها فى النطق.

وقال أحمد (?) بن يوسف: «دخلت على المأمون وفى يده كتاب، وهو يعاود قراءته مرة بعد مرة، ويصعّد فيه بصره ويصوّبه، فالتفت إلىّ وقد لحظنى فى أثناء قراءته للكتاب، وقال: يا أحمد أراك متفكرا فيما تراه منى! قلت:

نعم، وقى الله أمير المؤمنين من المكاره وأعاذه من المخاوف، قال: لا مكروه إن شاء الله، ولكنى أقرأ كتابا وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله فى البلاغة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015