وكان جوادا ممدّحا، كما كان فاضلا نبيلا حميد العشرة محببا إلى معاصريه، وما توافى سنة 217 للهجرة حتى يلبّى نداء ربه بأذنة فى غزوة مع المأمون.
ويروى أنه لما مات رفعت إلى المأمون رقعة فيها أنه خلّف ثمانين ألف ألف درهم، فوقّع فى ظهرها:
«هذا قليل لمن اتصل بنا، وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيما خلّف وأحسن لهم النظر فيما ترك».
وكان عمرو بن مسعدة يروع معاصريه ببلاغته، وهى تعدّ امتدادا لبلاغة جعفر بن يحيى البرمكى، تتصف نصفتين أساسيتين بارزتين هما الإيجاز الدقيق والوضوح البالغ، وهما نفس الصفتين اللتين امتازت بهما بلاغة ابن مسعدة، أما الإيجاز فقد بلغ منه أنه كان يضرب به المثل فيه، كما كان يضرب بجعفر بن يحيى من قبله، وكان يقول للكتّاب: إذا استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا. وكأنما استقر ذلك فى نفس عمرو فإذا هو يحيل كتبه فى مختلف الأغراض إلى ما يشبه التوقيعات اختصارا واقتصادا فى القول. وأما الوضوح فقد كان جعفر شديد الكلف به، وكثيرا ما كان يوصى به الكتّاب من حوله، ومرّ بنا فى الفصل الماضى وصف ثمامة بن أشرس المعتزلى لبلاغته ومدى ما كان يجرى فيها من بيان ووضوح وإيجاز شديد، ويروى أن الفضل ابن سهل وصف بلاغة ابن مسعدة فقال: «هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كل أحد إذا سمع كلامه ظن أنه يكتب مثل كتبه فإذا رامها تعذرت عليه (?)».
وهذا كما قيل لجعفر بن يحيى: ما حدّ البلاغة؟ فقال: التى إذا سمعها الجاهل ظن أنه يقدر على مثلها، فإذا رامها استصعبت عليه.
وليس هذا كل ما أخذه عمرو عن جعفر، فقد كان جعفر يتأنق فى اختيار لفظه، حتى لينمقه أحيانا بالسجع الرشيق، فحاكاه عمرو فى تنميقه وتأنقه وإشاعة السجع أحيانا فى كلامه، وخاصة إذا كان موجزا وطال نظره فيه، إذ كان لا يزال يبحث عن اللفظة الملائمة التى تروق فى السمع، كما يبحث عن المعنى الدقيق، فالكتابة عنده وخاصة إذا اتجه بها إلى الحسن بن سهل أو إلى المأمون أو كلّفاه بالكتابة عنهما لم تعد شيئا يجرى عفو الخاطر، بل أصبحت بحثا بأدق