الفلسفة اليونانية والحكمة الهندية. وكل تلك كانت أدوات ترشح الشخص لكى يعمل فى الدواوين لعصره، ويتقن العمل فيها، ويظفر بما يزيد من الإعجاب والترقى فى المراتب السنية.
وما نصل إلى زمن الرشيد والبرامكة حتى نجد جعفر بن يحيى البرمكى يستخلص عمرا لنفسه، ويتخذه كاتبا للتوقيع بين يديه، إذ حدّث عن نفسه قائلا:
«كنت أوقّع بين يدى جعفر بن يحيى فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه فى رواتبهم، فرمى بها إلىّ، وقال: أجب عنها، فكتبت: قليل دائم خير من كثير منقطع. فضرب بيده على ظهرى وقال: أىّ وزير فى جلدك! ». وأفاده عمله مع جعفر فى التوقيعات إفادة واسعة، إذ كان جعفر يعنى-كما قدمنا- بتنميق عباراته والاقتصاد فيها أشد ما يكون الاقتصاد، فطبع بطوابعه البلاغية على نحو ما سنرى عما قليل.
ونراه بعد ذلك متصلا بالفضل بن سهل القائم على تدبير شئون المأمون حين كان يحكم من مرو الولايات الشرقية، وقد اتخذه كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع وزيرا له وأسلم إليه مقاليد الحكم، فما زال بالأمين حتى قضى عليه كما قدمنا، وبايع الناس المأمون بالخلافة، وظلاّ جميعا بمرو حتى سنة 202 للهجرة، فبارحاها قاصدين إلى بغداد، وقتل الفضل فى الطريق، كما أسلفنا.
وإنما ذكرنا ذلك لما نظنه من أن عمرو بن مسعدة إذا كان عمل فى دواوين الفضل فلا بد أن يكون عمل بها فى مرو، مثله مثل أحمد بن يوسف، وكأن الفضل أعجب به، فأدناه منه واصطحبه معه هناك. وعاد إلى بغداد، فعمل فى دواوين أخيه الحسن وزير المأمون أو بعبارة أدق عمل فى دواوين الخلافة، ووقع من نفس المأمون موقعا حسنا فعهد إليه أحيانا تفتيش الولايات، وما زال يعجب به وببلاغته، حتى إذا رفع أحمد بن يوسف إلى مرتبة الوزارة أقامه على ديوان الرسائل، وكان يأنس له ويستطيب حديثه، فلما أخذ فى غزو الروم كان يستصحبه فى غزواته. ولعظم منزلته عنده ظن بعض الشعراء أنه استوزره، وذكر ذلك فى بعض مديحه له، إذ يقول:
لقد أسعد الله الوزير ابن مسعده … وبثّ له فى الناس شكرا ومحمده