لها أرض تقتنص النظر بتدييج أزهارها، وأطراد أنهارها، وتؤمن الراكض بها من هفوة غبارها، وكبوة عثارها، كأنما نسج أديمها منسج، واستوت أطرافها وأوساطها فجوها سجسج، ومتى تكلمت الفصول أعاد الله شبابها، فأنشأها خلقا جديدا، وجعل عودها مثمرا وظلها ظليلا مديدا، فيالله اتساع ظواهرها وبواديها، والحسن البادي ببحرها وبواديها، وارتفاع تلك القلعة والحصن، وما أوتي من النعمة والحسن، قد عمرت نجاده وغيطانه، واستقر بين خصب الوادي، ورحب النادي ثواؤه واستيطانه صعدت إليه فرأيت حصنا مستقلا، وكثيرا من الحسن لا مقلا، بل معقل الحسن ومستقره، ومجاز الأنس وممره، قلعة قد عقد الجبل حبوتها، وأزلق العراب أن تطأ ذروتها، وعصم سوار الوادي الملوي معصمها، وحمت غرر دهمائها أدهمها، فالخيل تصعد منها أنجما في فلك، بين طالع كطالعها أو غارب كغاربها، والأرجل منها على كرة لا تستقر بأخمص راجلها ولا بحافر فرس راكبها وكأنها قد اعتزت لولا ما جعل الله الأرض ذلولا، وأمر أهلها أن يمشوا في مناكبها، فمشيت منها في مركب سام، وألف بالنجوم مسام، ثم خرجت من المدينة في صبيحة يوم الأحد الخامس والعشرين لرجب المذكور سالكا سبيل جبل الحفاء، ومالكا من الرجاء ما برح به الخفاء، من جبل يقرع الواصل إليه سن الندم، ولا يكاد يشرب الماء إلا من قليب دم، قد أفرط في الجفا، واشتهر بالحفا، وجمع بين غلظ الشعراء والأرض الوعراء، فسلكنا منه في عقاب كفى بسلوكها للمجرمين من عقاب، نكتنف الفزع ونلتحف الجزع، إلى أن جزمتنا عوامله بالحذف، ومنعتها علاته من الصرف، وأسفر لنا وجهه العبوس ومحياه الذي في مشاهدته البوس، عن قطعة من العرب كقطع الليل، حملت علينا حمل السيل، فكان زوال كل ما ملكناه أسرع من لحسة الكلب أنفه، وناهيك عن صبيحة ذلك اليوم فجاءة حال، وسرعة انتقال " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال ".
لقونا فضموا جانبينا بصادق ... من الطعن مثل النار في الحطب اليبس
وانقلبت اعدى من جام ونجوت برأس طمرة ولجام، منهزما مكلما، يثعب جرحي دما، وصحابي قد منحوا الأكتاف والرقاب، ودماؤهم تسيل على الأعقاب،
وتركتهم تعس الرماح ظهورهم ... من بين مقتول وآخر مسند
ولم نزل نخوض أحشاء كل واد كالثعبان، نتلقف نفس الجريء فكيف بالجبان، فكأن تلك الأودية سيوف لقتل الأنس مسلولة، ولولا زرقة ألوانها لقلت دماء مطلولة، خاتم نظامها ومسك ختامها، ومنتهى كمالها وتمامها، وآخر عذابها وانتقامها يسمى) أبو جردة (قيل لأنه يجرد الإيمان من قلب شاربه، كفاك هذا من أوصافه ومناقبه، وهو على أثنى عشر ميلا من الحضرة، لم تنبت قط حوله عشبة نضرة، ترابه قد أسود، وماؤه قد أظلم، ويقال أنه من أودية جهنم، تعذر علينا جوازه في القارب فما توسطته راكبا إلا والمركب قد غمرته المياه وحملتني وإياه، وكنا من المغرقين لولا ان رحم الله، ثم خرجت سابحا، وقد ذهب الوادي بأكثر القوم، بسبب ما أنعم الله به علي من معرفة السباحة والعوم، وحصلت على ساحل النجاة ولا شيء إلا مبلولا، ولا شد إلا محلولا آو محمولا.
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
فوصلت إلى) حضرة تونس المحروسة (في ليلة يوم السبت أول من شعبان المكرم من العام المذكور بعد اللتيا والتي، وانضاء جسمي ومطيتي، وأخلاق البيتين اللذين لم أخلهما عن فكري ورويتي.
يقولون تونس مصر عظيم ... وأرجاؤها جنة زاهرة
نعم هي مصر لأربابها ... وللواردين هي القاهرة
فأرحت الراحلة من الرحل، واستبشرت بالخصب بعد المحل، ولابد دون الشهد من أبر النحل، فبتنا بها جيران دولاب يهدل، وأغصان تثني وتعتدل، وستر الظلام ينسدل، وتلك الحضرة تتلفع بثمارها تلفع الكاعب بخضرة خمارها، قد سلت على بساط الروض من المذانب حساما، وضحكت ثغور شرفاتها ابتساما، والدولاب بندب من الزهر الذاوي هديلا، ويتوسل للروض بدموعه فيخلف له بديلا، فبت أجاوب أنين ذلك الدولاب، وأجري بدمعي دمعه في الانسكاب، وأنشد فيه لبعض الأعراب:
باتت تحن وما بها وجدي ... واحن من طرب إلى نجدي
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني أحرقت خدي