ولما تفرى عن وجنة الأفق عذار العيهب، وتتوج كسرى المشرق بالتاج المذهب، طفقت أتمشى في الأماكن المكينة، وأتخلل سكك المدينة وأتعجب من محاسنها المستبينة، ووضوح قدمها ورسوخ قدمها وبهجتها وانفراجها، وانفساح رباها وأبراجها، ورونق رياضها، وتذلل الهموم لفرجتها وارتياضها، واتساع جنباتها وإفنائها، وكما لها في البلاد البحرية وغنائها، وإيناع حدائقها المحدقات، وإحرام حجيج الأنس في ذلك الميقات، فدخلت منها جنة حفت من طرقها بالمكاره، وعقيلة عقلت قلب الطائع والكاره، فهي الدمية الغراء، والقبة اللعساء، والخريدة العيناء، تزهى بها المحافل، ويحتقبها الطالع والآفل ولله در القائل:

لتونس تؤنس من جاءها ... وتودعه لوعة حيث سار

فيغدو ولوحل أرض العراق ... يحن إليها حنين الحوار

ويأمل عودا ويشتاقه ... اشتياق الفرزدق عود النوار

فالتاح بتونس الأنس، وانشرحت النفس، وصلحت الحال واللبس، ووجدتها كما قال أبو الحسن المري:

تؤنس بالغرب خير دار ... تؤنس من حلها غريبا

حللت عقد البعاد لما ... حللت من أهلها قريبا

وظللت ألقى أكابر الأولياء، وآخذ عن العلماء الأتقياء، فأول من لقيته بها من الأولياء والأفراد، والعلماء الزهاد، السيخ العالم الولي لله تعالى، أبو الحسن علي، المشتهر بالمنتصر، أفاض الله علينا من بركاته. هو صدر من صدور أئمة الدين، وكبير من كبراء الأولياء المهتدين، وقدوة في أفراد العلماء الزاهدين، حامل لواء المعارف، ومحرز التالد منها والطارف، وحافظ للكتاب والسنة، ومحافظ على اتباع الشريعة والملة، قائم بأعباء صلاح الأمة، باسط للضعفاء وذوي الحاجات جناح الرأفة والرحمة، كثير الصيام والقيام، دائم الخلوات ومستجاب الدعوات وقورا صموتا، مهابا معظما:

قابلته فملئت منه مهابه ... شغلت علي فصاحتي وبياني

ولثمت قرب فنائه فكأنما ... قبلت من طرب خدود غواني

رحل إلى المشرق قديما ووعى الكثير، وشأنه كبير، وله من المكاشفات وإجابة الدعوات ما هو أشهر من أن يذكر، حللت بحلاله، وانضويت إلى جلاله، وخيمت بسوارف ظلاله، فألقيت فيه ركنا عظيما ومأوى كريما وابابرا رحيما وإماما أوسعني إفادة ونصحا وتعليما، وسبب ذلك أن أخي أبا بكر محمدا لما خرج إلى وجهته الحجازية، وعلم الله تعالى منه صلاح النية وخلوص الطوية، وانتهى إلى الحضرة التونسية، جملته عوارف الألطاف الخفية، وعطفته عواطف القدرة الربانية، إلى لقاء شيخنا هذا والتبرك به، وطلب الدعاء منه فتفرس رضي الله عنه فيه مخايل النجابة ولاحت له عليه دلائل الصدق والإنابة، فضمه إلى جانبه الشامخ القواعد، وكفله كفول الوالدة والوالد، حتى جعل تحت حرمته، واختص بصحبته، وظهر فيه صدق فراسته وبركة دعوته، ثم ارتحل عنه مشرقا بعد تراخي المدة، وتوالي الأيام والأشهر الممتدة، قرير العين، ملي اليدين، فائزا بحظوة الدارين وحين وردت موارده، وحضرت معاهده، وسألت عن مطلع شمسه، مسير يومه وأمسه، فأخبرت أن الذي نعنيه بالسؤال، قد بانت برحيله الرحال، سقطت على التراب معفرا، وأفضت فأنشدت حين سرى:

ماذا وقوفك والركاب تساق ... أين الجوى والمدمع المهراق

الغير هذا اليوم يخبأ أو ترى ... بخلت عليك بمائها الأماق

حتى لقد رحلوا بقلبك والكرى ... ان النواظر لا الدموع تراق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015