ولم أزل ألازم ذلك الحرم الشريف مساءا وصباحا وأتنعم في روضته الجنة غدوا ورواحا، وأرسل دمع اللقاء مدرارا، وأناجي الحبيب ليلا ونهارا، فتهب نفحات القبول من ذلك الجناب، وتنفح أرواح الرحمة فأجلى المحبوب من وراء حجاب، ويزدحم الناس على الروضة المقدسة فتتلقاهم جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، وفي كل ليلة تتجدد لها من اللطائف والتحف، والطرائف والزلف، ما تقصر الألسن من نعتها، وما نرى من آية إلا وهي أكبر من أختها، وقد أثبت جميع ما سمعت، وجميع ما لقيت من ذلك الحرم النبوي الشريف في برنامج روايتي. وأكبر من لقيت به وأفضلهم وأعلمهم بالله تعالى وأزهدهم وأكملهم الشيخ الإمام الأوحد، ولى الله تعالى أبو محمد بن أسعد بن علي اليافعي، اليمني الشافعي، رضي الله عنه هو أجل العلماء العابدين وأفضل الأولياء الزاهدين، وأحفل الأدباء البلغاء الماجدين آثر الفقر عن الغنى، واختار الآخرة على الدنيا وتبدل من الجياد، بالوهاد، واعتاض من اللدونة بالخشونة فقطع العلائق، وهجر الخلائق، ورأى الدنيا ساعة فجعلها طاعة، وشمر للعبادة كل التشمير وبالغ في الزهادة حتى ما أبقى من فتيل ولا قطمير، فخرج من مواطنه إلى بلاد اليمن سائحا وانقطع لعبادة مولاه شابا صالحا، مفارقا للامرة، وهاجر دياره إلى دار الهجرة، فاشتهر علما وعقلا، واشتغل بالحق عن الخلق وكفى بالعبادة شغلا، واستنفذ في طاعة مولاه الجهد، واستشهد في دنياه الجهد، وآثر الرغبة عنا والزهد، وتسوغ صابها كما يتسوغ الشهد، وأطال في حنادسها السهد، وواصل الصيام والقيام حتى أفنى العظم والجلد، ولقد عاينته وقد الصق بالأرض الخد وأرسل دموعه حتى سقت الثرى والنجد، وعلا صياحه متأوها باكيا حتى كاد أن يبكي الحجر الصلد. فيرحمه من شاهدوه قد فني ويرتجي له الخلد. فاستقر بالحرم النبوي الشريف وقر في ذلك الجنات العالي المنيف، وقسم مجاورته الكريمة. بين الحرمين الشريفين مكة والمدينة فتارة يكون في جوار بيت الله، وتارة يسكن في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشرف وكرم. لم يزل على ذلك من سنين، فله من الحجج ما ينيف، على الخمسين، ما ملك زيادة على ستر عورته ولا علم أحد من أين يأتيه سد جوعته، وقد رفع العلم قدره، واحتقرت العين طمره، ولو اقسم على الله لأبره:

رب ذي طمرين نضو ... يأمن العالم شره

لا يرى إلا غنيا ... وهو لا يملك ذره

ثم لو اقسم في شيء ... على الله أبره

لقيته بالحرم النبوي الشريف فسمعت منه، ورويت عنه، وظهرت لي بركة لقائه، وإجابة دعاءه. نفعنا الله به وبأوليائه وسمعت من لفظه كثيرا من تأليفه الذي سماه كتاب الإرشاد والتطريز. في فضل ذكر الله وتلاوة كتابه العزيز، وفضل الأولياء والناسكين والفقراء والمساكين، وهو تأليف بديع السلك، وأجازه لي وأذن لي في روايته عنه وأجازني إجازة تامة وأنشدني منه قصائد عديدة لنفسه، من ذلك قصيدة طويلة أحسن فيها ما شاء وأجاد وأولها.

قفي حدثينا من حديث الأحبة ... وقد سكروا من كأس راح المحبة

وأقمار حسن قد تجلت ليجتلوا ... عرائس أنوار عن الوصف جلت

ومن ذلك قصيدته التي أولها:

تركت هوى ليلى وسعدي بمعزل ... وعدت إلى تصحيح أول منزل

ونادت بي الأشواق مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فانزل

وأنشدني لنجم الدين الاصبهاني:

وقد أوطأت نعلي كل أرض ... وقد أتعبت نفسي باغتراب

وقد طوفت في الأفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015