ومن أعظمهم رياسة، وأكرمهم سيادة وسياسة، الشيخ العالم الرئيس جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف الخزجي المصري السعدي العبادي رضي الله عنه ذو المجادة والأصالة، والسيادة المأثورة والجزالة، والحفظ لرسوم العلم والجلالة، الذي علم بالوفد، وشهد بالرفد، وتبوأ بحبوحة المجد، وسار سيرة الصلحاء الأخيار وورث الأعمال البرة من أسلافه، وتقليل ذروة العز المكينة، وأشير إليه بالسمت والعدالة والسكينة، كبير الرؤساء، وأثير الكرماء، وعارض النعماء، وفاضل العلماء وكامل السؤدد والعلاء، عكف على إسماع الحديث وإقامة السنة، لقضاء أوطار أهل الاوطار، لا واهي الهمة ولا ضعيف المنه، لقي الصدور الأكابر، فوعى صدره علما كبيرا وسقى زلال الحكمة فأحيا الله به إنعاما واناسى كثيرة.
جزته جوازي الخير عنهم فانه ... سقاهم بشؤبوب من العدل ساجم
فقد سار فيهم سيرة لم يسر بها ... من الناس إلا مثل كعب وحاتم
لقيته بالحرم النبوي الشريف تجاه الروضة المقدسة، فسمعت عليه كثيرا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأربعين حديثا التي خرجها له الأمام الحافظ علم الدين البرزالى الدمشقي في كتاب الزيارة لأبي اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن عساكر، وحدثني بها عن أبي اليمن بن عساكر المذكور سماعا عليه، وأجازنيها مع جميع ما يحمله ويرويه إجازة تامة مطلقة عامة، ومولده في سنة ست وسبعين وستمائة وما برحت في ذلك الحرم النبوي الشريف في بلوغ سول، ومجاورة أكرم نبي، وافضل رسول، إلى أن وصلت الركبان الشامية التي كنا خلفنا خلفنا، فخرجنا بأثر وصولهم، وهبت علينا نفحات القبول والتكرم، والشوق في كل ذلك مكتنف ولا دمع إلا منذرف، ولا قلب إلا مختطف.
ولولا الترجي للمحبين لم تكن ... قلوبهم يوم النوى تعمر الدرا
وكان خروجنا من المدينة الكريمة في ضحوة يوم الاثنين الثالث والعشرين لذي القعدة المذكورة وسرنا نكفكف أمطار الدموع، ونخلف المدينة الكريمة بالطرف الرامق والقلب الولوع، وقلبي يتوقف ويتخوف على اللحاق، ويتخلف عن الرفاق من فرق الفراق، بعد فرح التلاق فصارعت مرامه وأنشدت أمامه:
لله أي هوى برامه ... حيث القلوب المستهامه
لم يبق قلب في الحمى ... إلا وقد أعطى زمامه
بالله يا حادي القلوب ... إذا رجعت مع السلامة
فاخدع فؤادي عله ... يرعى لمنزله ذمامه
حتى انتهينا إلى ذي الحليفة وهي على خمسة أميال من المدينة أحرم من هناك أكثر الناس بالحج مفردين، وقارنين ومتمتعين فأحرمت منها بحجة مفرد، ومنها أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها هو حرم المدينة الكريمة إلى مشهد حمزة رضي الله عنه إلى) قبا (ثم سرنا ملبين راغبين لله تعالى مبتهلين، ولم نزل نسير في تلك الأودية وهجيرها يلفح. وزفيرها لا يكف عنا ولا يصفح إلى أن وافينا وادي الصفراء فنزلنا على نعيمه الذي به حييت الذماء، وان هو إلا الاسودان التمر والماء، وسرنا إلى أن نزلنا ببدر وهناك يجتمع من مصر والشام الطريقان، ويتألف منهما الفريقان. وبمنزلنا ذلك اجتمعنا مع الركب المصري والمحمل الآمري فروينا من عذب ذلك الماء، وزرنا مشاهد الصحابة الشهداء. ثم رحلنا إلى أن وردنا ماء) رابغ (بقرب الجحفة فأحرم هنالك من كان دون إحرام. وارتحلنا محرمين إلى بلد حرام. إلى أن وصلنا) خليص (فوردنا من ماءها النمير. وتزودنا تمورها الكثير، وارتحلنا إلى أن وصلنا إلى بطن) مرو (وقد أنسنا بدنو المرام. والاقتراب من بيت الله الحرام. فأدركنا في تلك الطريق الظلال بقية المقيل، وخيمنا بين متكاثف ذلك النخيل، وسرنا إلى أن وصلنا مكة شرفها الله تعالى فدخلناها من كداء الثنية التي بأعلاها في ضحوة يوم السبت الخامس لذي الحجة من العام المذكور. والأصوات تصافح الآذان بالتلبية، والألسنة تضج بالرغبى والأدعية فياله يوماً طرز به العمر وانشرح له الصدر، ووضع فيه الوزر وأجزل الثواب والأجر. فاعظم بحرمة حرمته وأكرم بمسائه وصحبته وأعبق بكافور غدوته، وزعفران عشيته، وعنبر ليلته، وفي ذلك يقول صاحبنا نجم الدين أبو الحسن علي بن داوود بن يحيى بن كامل الحنفي الدمشقي ونظمها قبل الوصول إلى الكعبة شرفها الله تعالى.
ليلة الوصل بالمليحة أهلا ... بك يا غاية الأماني وسهلا