ويتلوه البحر المتلاطم الأمواج، والمنهل الذي نروى بعذبه بقاع الوهاد وتلاع الفجاج، والمجموع الذي نزلت بساحته مفنرقات العلوم نزول الماء الثجاج قاضي القضاة وإمام الفقهاء والنحاة ورب العقل الوافر والحصاة، الشيخ العالم العلامة قطي الشورى وعماد الفتيا، قدوة علماء الإسلام، أبو عبد الله بن عبد السلام رضي الله عنه، رجل نشأ في العفة والصيانة وتبوأ ذروة الطهارة والديانة، وصعد من هضبة التقى على أعلى المكانة، فلم تعرف له قط صبوة ولا حلت له على غير الطاعة حبوة، على ان المسهب في الأوصاف الكريمة، والمشيد بالمناقب المشيدة، سكيت مع سبقه ومسيء في إحسانه، وقاصر عن إدراكه، وهيهات يضرب في حديد بارد، ويطلب ما ليس له بواجد، من رام بيده لمس الشمس، وتعاطى برجله لحاق البرق، صرف همته العلية، وفكرته الوفادة الزكية، إلى انتحال فنون العلوم، وافتتاح المعكوم منها والمختوم، ملك أعنتها، وقاد أزمتها، وأوضح أشكالها، ووسم إغفالها، وحل أقفالها وتلقى بالسهل والرجب آنثيالها عليه واقبالها، فهو اليوم وحيد الأوان، وعلامة الزمان، والمشار إليه بالبنان والبيان ما قرن به فاضل من العلماء الارحجه، ولا ألقى إليه مبهم من العلم إلا كشفه وأوضحه، عدلا في أحكامه، جزلا في إقدامه مراقبا لله في فعله وكلامه، له صادقات عزائم، لا تأخذه معها في الله لومة لائم، إلى نزاهة عن الدنيا، وهمة نيطت بالثريا، ولهجة فيها ترقرق ماء البشر فأحيا وحيا.
يقابلني له خلق وضيء ... يصدق بشره خلق رضى
حضرت مغتنما وملتزما تدريسه الذي هو ضالة الناشئ الناشد، وبغية القاصي والقاصد وحديقة الرأي الرائد، وحقيقة الفوائد، فسمعت وانتفعت وأخذت عنه شرحه لكتاب ابن الحاجب الفرعى فقرات وكتبت وأجازني في غير ما مرة، وكتب لي بخطه ومولده سنة ست وسبعين وستمائة وسمعت منه بمنزله من تونس جميع موطا الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه في مجالس كثيرة آخرها ضحوة يوم الجمعة الثالث عشر لصفر من عام أربعين وسبعمائة وأذن لي في روايته عنه وحدثني أنه قرأه أجمع بلفظه على الأستاذ المقرئ أبى العباس المشتهر بالبطرنى المتقدم الذكر بسنده فيه وقرأه كذلك أيضا على الشيخ المحدث الرواية المعمر أبى محمد عبد الله بن هارون الطاءي، وحدثه به عن القاضي أبى القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن بقى قراءة لبعضه وسماعا لسائره بمدينة قرطبة أعاداها الله دار اسلام عن أبي عبد الله محمد بن عبد الحق الخزرجي قراءة عليه عن أبي عبد الله محمد بن فرج الفقيه مولى الطلاع سماعا عليه قال سمعته على القاضي أبي الوليد يونس بن عبد الله أبن المغيث عن أبي عيسى يحيى بن عبد الله أبن يحيى بن يحيى عن عم أبيه عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن مال بن أنس رضي الله عنه ورحمهم وهذا السند لا يوجد مثله بالمغرب علوا واتصالا بالقراءة والسماع، وقرأته أيضا عام ثلاثين وسبعمائة على والدي وأخبرني أنه قرأ منه جميع كتاب الصلاة عرضا عن ظهر قلب على والده جدى عن جماعة جلة منهم والده الخطيب أبو إسحاق وغيره وقرأته بالمسجد من مدينة مالقة المحروسة عام ثلاثة وعشرين وسبعمائة على الشيخ الخطيب الزاهد الولي الله تعالى أبى عبد الله محمد بن أحمد الهاشمي الطنجالي بسنده فيه وقد قرأته وسمعته بالأندلس وبغرب العدوة على غير من ذكرته رضى الله عن جميعهم. وقد آن أن يبرز فارس ميدان التسجيل المتميز في عناق تلك الحلبة بالغرة والتحجيل المحرز فضل السبق الموجب للتعظيم والتبجيل الشيخ العالم المتصوف أبو عبد الله بن عمر أرضاه الله تعالى، علم الجماعة، وقلم التأييد والاستطاعة، ورب الفكرة المطاعة، ومن له في النظم والنثر القلم الأعلى، والقدم الأولى، واللفظ الأجلى، والقدح المعلى، والبدائع التي تستفاد وتستعاد وتستحلى، وله في الطريقة الصوفية مقام عال، واشتات معال، وخاطر يجول بين واسع مجال فيبرز نفائس لئال وعرائس جمال ويأتي بسحر حلال، وبحر زلال بين بديهة وارتجال، ووخذ وارقال وانحفاز واستعجال.
مكارم مثل الحصا كثرة ... وخاطر يغرف من كل بحر