رحل إلى المغرب والمشرق فعلت روايته وعظمت آياته، وكثرت مبالاته بالعلم وعنايته، فبدأ في سماء المعالي بل المعارف شمسا تتجلى بزهر هدايته مشكلاتها، ولاح في جيد العوارف سلكا تتحلى بذر كفايته لباتها، وأقام مشتغلا بالعلم سنين، وانعقد النكاح بينه وبين عقائل الآداب بالرفاء والبنين، فيلد من مخلدات فكره خرائد تتهاداها الملوك وفرائد تزدان بها التيجان والسلوك، تحلت به الدولة الأندلسية كما تجلت عنه الخضرة التونسية فهو الآن متولي ديوان إنشائها ومدلى أشطان رشائها قد استقر عنه من عرف له شانه وعاف بعده وشانه واقتنى نظمه فزانه وأذخر مرجان نثره وجمانه. دخلت الحضرة المذكورة على حين أخذ مني البين أخذته وفلذ من فؤادي فلذته، فتفرست أدبه الرائق ومذهبه الواضح الطرائق فكان جنابه العلي مطمح نفسي ومسرح أنسي ومصلح ما نضى من لبسي، وانضى من عنسي فكانت فراسة لاح صدقها، وأومض برقها سحابها، وهمل ودقها، ولما عجت إليه وقصدت منزله للسلام عليه، أنشدت بيتين اثنين استأذنته بهما وهما:
ببابك يا مولى الكتابة كاتب ... أتاك بقلب من أسى البين مفجوع
وحاجته تقبيل يمناك، أنها ... تؤمن من خوف وتسمن من جوع
فارتاح إليهما ارتياح الصداق لبليل القبول، ومد لهما يمين اليمن والقبول، ودارت بيننا المخاطبات نظما وتكررت بيننا المراسلات والمراجعات قلا وكثرا، ولم أزل مدة إقامتي بتلك الحضرة تحت ظله الوارف وفضله المحمود المطارف خرج مستريحا في بعض أزمنته الطيبة إلى بعض جناته التي هي منى النواظر، وملعب الغصون النواضر ومهب الأنفاس العواطر وراحة الأبدان والخواطر، حلال الحلل التي توشيها أيدي الغمائم المواطر، فما ألم بها حتى وجه إلى مع بعض خدامه مركوبا من عتاق الخيل، جامعا لضياء الصباح وغسق الليل نقلني إليه، وأحلني لديه، فوافيت والربيع قد أهدى نوافحه، وأسدى لواقحه، وأسدل ملاحفه وأسبل مطارفه، وألان معاطفه وأفاض معارفه، ومد بروده، وأمال قدوده، وحشد جنوده، وحشر بيضه وسوده، ونشر ألويته وبنوده، وملأ تهامته ونجوده، ونظم جواهره وعقوده، ورقم صحائفه وعقوده، وأعطى مواثيقه وعقوده، والغمام قد بكى على ميت الروض فأحيا نوره وأضحك ثغره وحدق أحداقه، وأرضى أوراقه، وأصفى ملبسه، ووشى سندسه، والنسيم قد جر على بساط البسيطة ذيوله، وأجال بملعبه خيوله، واستنطق أطياره، وشق أنواره، وأفشى أسراره، وأذاع شيحه وعراره، وفضض أنواره، وذهب أزهاره، ونثر درهمه وديناره، وحيا ورده وبهاره، وصافح آسه وجلناره، وأطاب ثناياه وأخباره، والمذانب تسل السيوف، وترى لنفسها على الأنهار الشفوف، وتخترق من مكللات الثمار الصفوف، وتدور على سوق الغصون كالخلاخل، وتلتوي بها التواء اللسان المجادل، وتلك السواقي تحن حنين الحوار، وتضرم في القلب المشوق حر الأوار، وتهيج لوعة الصب المغترب النازح الدار، وتفجر من بين أضلاعها أمثال الشفار، كما قال الرئيس أبو عبد الله بن أبى الحسين:
ومحنية الأصلاب تحنو على الثرى ... وتسقي بنات الترب در الترائب
تعد من الأفلاك أن مياهها ... نجوم لرجم المحل ذات ذوائب
وأطربها رقص الغصون ذوابلا ... فدارت بأمثال السيوف القواضب
وما خلتها تشكو بتحنانها الصبا ... ومن بين مثليها أطراد المذائب
فخذ من مجاريها ودهمة لونها ... بياض العطايا في سواد المطالب
فحللت منها شرفا، وتبوأت عرفا، واجتنيت تحفا وطرفا، وأقمنا فيها ليالي وأياما أمنين، تغازلنا أعين النرجس وتقابلنا خدود الورد وتصافحنا أكف الياسمين:
في رياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح
قلت وما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح
ومما أنشدني هناك لنفسه:
حسن المرية ريح ... جرى عليها فعما
فكل وجه تراه ... تراه بدارا أتما