وقد كان الرسول بها قال لصلاح الدين، خذ هذه فما أهدى لك ولا لبيك قط مثلها، فغضت السلطان من هذا الكلام فقال الرسول لا تعجل وانظر ما فيها من الكلام، فلما نظرها وقرأ البيتين قبلهما ووضعهما على رأسه وقال: صدق الشريف ما وصلتني قط هدية مثل هذه. وقرأت عليه من كتب القراءات والحديث وغيرها تصانيف كثيرة، استوفيتها بأسانيدها في برنامج رواياتي، وأجازني إجازة تامة، مطلقة عامة، وكتب لي بخطه، ومولده عام ثمانية وستين وستمائة.
وأشفعهم بأوحد الزمان، وفريد البيان والتبيان، العديم النظراء والأقران، والمرتقى درجة الاجتهاد بالدليل والبرهان، الشيخ العالم المشاور أبو عبد ابن الحباب، حبر، بحر، حافظ لافظ، ذو أبهة وبهاء وحبوة مملوءة من علم، خالية من ازدهاء، برع بأحسن الصورة، في مطالع الحسنى إلى أنهى كمال وأكمل انتهاء، برع بأحسن الصورة، وفرع من الجمال أرفع السورة فبسق بسوق الغصن الناضر وأضحت حدائق محاسنه نزهة الأحداق والنواظر، انفرد بفنى المعقولات والمقولات، واتحد في علمي اللسان والبيان فما يجارى، في شيء من ذلك ولا يبارى، وهو فيما عدا ذلك من الفنون يفوق القدور ويفيض على مزاحمة البحور، ويحلى من فوائده الطلا والنحور، وله تآليف وتصانيف فيها للعلوم صنوف، وهي في الأذان شنوف، ولها ظهور على غيرها وشفوف، وقلائد قصائد تنجلي بجمالها الخرائد، وتحسد حسنها النيرات الفراقد ونشربل نور، أو أنجم زهر، أو لجين أو تبر، أو يواقيت أو در، أو حصباء بللها نهر أو شذور رصعت فشطر وشطر:
نظم ونثر في رياض بلاغة ... سجد الربيع لبردها الرفراف
لم أدر من عجب بها وتعجب ... أنظام در أو نظام قواف
كان زمن شبابه، وتعلقه بطلب العلم واستفتاح بابه، رئيس إنشاء الدولة الحفصية، والمستقل بحمل الراية التونسية، فملا الدلو ومد الرشاء، وأنال الإنشاء ما شاء، وأزال عن جفون الطريقة الأدبية العماية والعشاء، فلما أحرز في ذلك الفن قصب السبق وحازه، وقطع فيه صدر العمر واستقبل إعجازه، عطف إلى تعليم العلوم، وعكف على تدريب تدريس المعدوم منها والمعلوم، فأفاد الأفذاذ، والأفراد وأمتع الجهابذة والنقاد، وأسمع الأسماع ما اشتهى كل منها وأراد، إلا أنه كثير الأنس مؤثر لراحة النفس، قلما ينضبط لطالب، ولا يغتبط إلا بذي فهم ثاقب، وسهم في العلوم مسدد صائب، فمجالسه مجالس علم وإيناس، وتقريب لأناس، وتبعيد لأناس، وكنت بحمد الله من الفريق الأول لا بالمشكوك فيه ولا بالمتأول، فسمعت وأخذت وأجازني الإجازة التامة، وكتب لي بخطه أنشدني لبعض المشارقة يعرض بآخر ينعت بسراج الدين، وكانت قبيلته بجيلة فضمنها البيتين وهما:
لنا في البيت من خزف سراج ... عراقي فتيلته نحيلة
يضيء لمن تعاهده بدهن ... فلا كان السراج ولا الفتيلة
وأنشدني لسراج الدين الآمدي:
بني أفدى بالكتاب العزيز ... وراح إليه سريعا وراجا
فما قال لي أف مذكان لي ... لكوني أباه وكوني سراجا