وتوافقنا طويلا وقد حميت الصدور، وكؤوس المنايا تدور، ثم صدقناهم الجلاد والطعان، وجملنا عليهم كأننا الرعان. . . وازلناهم عن مركزهم، وبدلناهم بالذل من تعززهم، ووالينا عليهم الكرة بعد الكرة وحوزنا عليهم في كلها أشد المعرة، فلوا أمامنا مدبرين، وأضحوا كالنعام مجفلين، وحال بيننا الظلام المفكهر، فلم ندر من فر منهم إلى أين يفر، وانحاز بعضنا من بعض وقد عضتهم نار الحرب أيما عض:
ورحنا بعد ذاك إلى مقام ... تحدث عنه ربات الحجال
كأن الخيل تعلم من عليها ... ففي بعض على بعض تعال
وبات الجمهور من أصحابنا متقلدين لصوارمهم مخلصين أصدق النيات في عزائمهم باذلين في ذلك مشكور اعتمادهم واعتمالهم، مصدقين لقول من قال في أمثالهم:
نفسي فداء معاشر شادوا العلا ... بعزائهم وأسنة وصفاح
ما للرجال وللنعيم وإنما ... خلقوا ليوم كريهة وكفاح
ثم رحلنا ظافرين وأدلجا مسافرين، وأفضى بنا الركض إلى ملة بيضاء مفيضة إلى قرارة خضراء تتفجر فيها عين ورقاء ماؤها صفاء إنسانها وأحدق بها النبت مهدب اجفانها، فنهلها في نميرها وكرعنا في غديرها، وركزها رماح الخط فوق رياض القصب وافترشنا مطارق الوشي فوق دارنك العشب، وجعلنا من اللجم أوتادا مرفودة واتخذنا من الأعنة أسبابا ممدودة فقدم الخباء، واستوي البناء، والماء يقهقه في خريره والقمري يقرقر في هديره، والنسيم يعبق من المسك الذكي والجو مضمخ بزعفران العشي:
تشدو بعيد أن الأراك حمامة ... شدو القيان عزفن بالأعواد
مال النسيم بقضبه فتمايلت ... مهتزة الأعطاف والأجياد
هذي تدع تلك توديع التي ... قد أيقنت منها بوشك بعاد
واستعبرت لفراقها عين الندا ... فابتل مبرز غصنها المياد
فأنا لكذل إذ برقت السماء فسلت مذهب نصولها وأرعدت. فضربت منذر طبولها. وجعل الغمال يهيئ مراكبه وأخذ الربان يرتب كتائبه، فبعد ما أعز السير وامتد طلقه وغلبه البهر فتصبب عرقه خر هنالك ولقى، فعندها نادم الروض فغنى وسقى، فتنفست الأرض عن نكهة العروس وتبرجت في حلية الطاووس:
وكان صوت الرعد خلف سحابه ... حاد إذا ونت الركائب صاحا
مرتجة الأرجاء يحبس سيرها ... ثقل فتعطيه الرياح سراحا
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كي تهتدي مصباحا
جادت على التلعات فاكتست الربى ... حللا أقام لها الربيع وشاحا
فساعة خمد ذلك البرق، وانقشع ذل الودق، واعتزمنا على الرحيل والتحول في برد الأصيل:
وبدا لنا ترس من الذهب الذي ... لم ينتزع من معدن بتعمل
مراءة تبر لم تشن بصياغة ... كلا ولا جليت بكف الصيقل
تسمو إلى كبد السماء كأنما ... تبغي هناك دفاع خطب معضل
حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت ... وقفت كوقفة سائل عن منزل
ثم انثنت تبغي الحدور كأنها ... طير أسف مخافة من أجدل
بين الأنهار والأزهار في العشايا والأبكار:
ورب عشية فيها طفقنا ... نرود الظل والماء القراحا
وقد ضرب الضيب بها قبابا ... على الأدواح أبهجت البطاحا
كان جنابها يخضر آسا ... فأصبح وهو مبيض أقاحا
كأن الخضر جربها يمينا ... ومد عليه جبيل جناحا