وقدة الجنس في عروقه، مثلما لم يستطع من قبل أن يخلصه من تلك الوحدة الرومنطية التي تتلذذ بالألم والشكوى والدموع. ولهذا اقدم على نظم القصيدة ليريح ضميره الرازح بالإثم الذي تسري فيه القشعريرة كلما ذهب صاحبه إلى ارواء ظمأه في المناهل الوبيئة. ولم يكن من منفذ لهذا كله إلا التشفي بقسوة جائرة من الذات، في صورة حفار قبور. ولا ريب في انه كان يعرف؟ بحكم يساريته - إن حفار القبور امرؤ لا ذنب له، ولهذا حاول ان يعتذر عنه بأنه لم يقرأ الكتب الضخام، وان تجار الحروب هم المسئولون عن كل ذلك:

وهم المجاعة والحرائق والمذابح والنواح ... وهم الذين ستركون ابي وعمته الضريرة ... بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام ... أو يفحصان عن الجذور ويلهثان من الأوام ... ولكن هذه اللفتة بدت عابرة في سياق القصيدة وكان الإلحاح كله على تصوير حفار القبور وعبوديته لشهواته، ولهذا أضاع الشاعر من قصيدته الجانب الرمزي فيها، ولم يوفر للقارئ أي مجال للربط بين " الجبرية " التي يعانيها الحفار في عالم الفقر وبين الدمار الحقيقي الذي يصنعه تجار الأسلحة في عالم الأثرة الفاحشة.

ولتوضيح هذا الموقف علينا أن نتتبع القصيدة في سياقها العام: يفتتح الشاعر قصيدته برسم الجو الطبيعي وقد اخذ ضوء الأصيل يغيم على القبور، وأسراب الطيور تملؤ الجو نعيبا تردد صداه الصحراء، ثم اخذ ضوء ضئيل يتنفس وعلى رقصاته المرتعشة ظهر ظل طويل لحفار القبور:

كفاه جامتدان ابرد من جباه الخاملين ... وكأن حولهما هواء كان في بعض اللحود ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015