لعل القارئ قد لمح في هذه المراجعة أني تجنبت الحديث عن بناء القصيدة وانني جعلت اكثر الحديث متصلا بشخصية الحفار، ثم ألمعت في سرعة إلى بعض التفسيرات النفسية التي قد تطبق على القصيدة والى انه قد يكون لها محمل رمزي، وان كنت أوثر أن آخذها على وجهها الظاهري دون لجوء إلى الرمز. واليوم؟ وبعد سنوات على كتابة هذه المراجعة - اعود إلى القصيدة مفصلا لا مجملا، جاعلا القصيدة (بعد أن تجوزت في تسميتها ملحمة) في موقعها الصحيح من حياة الشاعر وتطوره الفني.

وأول سؤال خطر لي هو: هل كان من حق هذه القصيدة ان تنظم؟ ولست أسرع إلى الإجابة على هذا السؤال، لأن معظم ما سأكتبه من بعد يصلح جوابا عليه؛ ولكني أحب أن يظل القارئ واعيا بحقائق هامة تعد مقدمة للحديث عن القصيدة وهي أن السياب كان في تلك الفترة يعاني الضياع في شوارع بغداد ومقلهيها؟ كما سيتضح بعد قليل - وانه كان يحس بالهوة التي تردت فيها مثله الريفية النقية وهو يتردد إلى بيوت البغاء، وانه في الوقت نفسه كان يتجرع مرارة الإخفاق في حب يؤدي في حب يؤدي إلى زواج وينسب كل ذلك لأبيه، كما رأينا في قصيدة " سجين "، وان ثورته على الأب كانت آخذة في الازدياد؛ وفي غمرة ذلك الشعور من نقمته على نفسه وعلى أبيه نظم قصيدة " حفار القبور "، ليتلذذ بتعذيب نفسه المتهالكة على الشهوات، وتعذيب ابيه، الحفار القديم؟ الذي دفن أمه، وجعل من الابن " رذية " معقورة عند قبر، أي حفارا جديدا آخر، وامتزجت الصورتان معا في شخصية حفار القبور، مع ما اقتضاه التحوير الشعري اللازم لبناء القصيدة. والى هذا كله كان السياب قد قطع شوطا في الظهور بمظهر اليساري الملتزم الذي يتحدث عن الطغاة وفجر السلام، ولكنه لم يكن قد برئ من ازدواجية محيرة، فالنضال في سبيل الجماهير لم يستطع أن يريحه من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015