الحفار قبل أن يهيئ له الطعام؟ وهي ناحية لم يلتفت إليها الشاعر - ولان الموتى في الحرب لا يدفنهم حفار بأجر - وهي ناحية أخرى من الواقع. فالروح المخربة التي تسكن في جسم ذلك الرجل؟ اعني الحفار - تجعلنا نضحي به من اجل المجموع وخاصة حين يكون الحفار رمزا للطاغية المستبد في الأمة يضحي بأبنائها من اجل أن يأكل، ويحفر في كل يوم قبرا أو قبورا ليداوي حمى الجشع في نفسه؛ ولقد كان في استطاعته الشاعر ان يتخذ من شخصية الحفار رمزا للقوى المتحررة لا لعبودية الغرائز.

و" ملحمة حفار القبور " تهم الذين يربطون بين الأدب والتحليل النفسي لأن فيها من صدق التصوير لبعض العقد الدقيقة ما يجعلها فريدة في هذا المجال ومن السهل أن يعثر فيها القارئ المدقق على فكرة " الولادة الجديدة " Re - birth التي يمثلها الإلحاح الشديدة في اعتصار الثديين ومنظر الدماء المعتصرة (ص15) والحفرة المعدة قبل الأوان لاستقبال العائدين إلى " رحم التراب "؛ وفي هذه الملحمة ثورة نفسية عاتية على الأبوة؟ أو على الأب بتعبير أدق - ولكن مما يخفف منها أحيانا خضوع شخصية الحفار لغرائزه وجوعه وجهله، ونستطيع ان نجد هذه الثورة في مواقف كثرة من الملحمة، وخاصة وان الشخص الأخير الذي واراه الحفار في النهاية هو " الأنثى المظلومة "؟ رمز الأمومة - التي تكون فريسة له مرتين: حين يشتري جسدها بالنقود وحين يسترد نقوده منها. وقد كان من آثار هذه الثورة أن مضى الحفار عنا ونحن لا نعطف على وجوده، وظل في النهاية حيا ليظل نفورنا منه حيا، وماتت المرأة المظلومة قبله لتثير فينا شيئا من الأسى على مصيرها التعس " (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015