فعلى سبيل المثال عندما يقرأ المرء قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 36] ثم أسقط هذا المعنى على نفسه، وفتش فيها، فوجد أنه متلبس بهذا الخلق، كأن يكون كثير الحديث عن إنجازاته، والمباهاة بقدراته و .... ؛ فتألم من ذلك وأراد أن يغير هذا الخلق السيئ ... فهل يتوقف عن قراءة القرآن حتى ينتهي من علاج نفسه من هذا السلوك؟!
الجواب هو: عدم توقفه عن القراءة اليومية للقرآن، لأنه من خلاله يتزود بالإيمان الذي يدفعه - بعون الله- لتغيير هذا الخلق، وغيره مما تدل عليه الآيات.
وفي نفس الوقت عليه أن يجتهد - بقدر المستطاع- في تغيير هذا الخلق، ويداوم على محاسبة نفسه ويجاهدها في الالتزام بالتواضع ونكران الذات.
ومما يساعده على الاستمرار في جهاد نفسه هو كثرة تلاوته للقرآن، لأنه سيجد آيات عديدة، وفي سور مختلفة تذكره بخطورة الإعجاب بالنفس، وتستحثه على التواضع، فالقرآن يكرر المعاني بأساليب مختلفة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50].
الخلاصة هي: عدم ترك القراءة بل الإكثار منها، وفي نفس الوقت عدم إهمال العمل بما دلت عليه الآيات في حدود المستطاع.
إن القرآن هو رسالة من الله إلى كل واحد منا، لذلك عليه أن يديم قراءتها ويطبق ما يقدر على تطبيقه منها.
وفي هذا المعنى يقول الحسن البصري: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جَمَلا، فأنتم تركبونه وتقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار.
وينقل لنا الإمام حسن البنا وصية من وصايا الإمام محمد عبده لبعض تلاميذه يقول فيها: «وأدم قراءة القرآن، وفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يُتلى على المؤمنين أيام الوحي، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خَفِي عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يُشخصك القرآن إليه، واحمل نفسك على ما يحمل عليه».
ويعلق البنا على هذه الوصية فيقول:
ولاشك أن من أخذ بهذه الطريقة سيجد أثرها بعد حين في نفسه مَلَكة تجعل الفهم من سجيته، ونورا يستضيء به في دنياه وآخرته إن شاء الله (?).
يقول المودودي: ومهما يتخذ الإنسان من التدابير ويستخدم من الوسائل لفهم القرآن، فإنه لا يصل إلى جوهر القرآن وروحه كما ينبغي، مادام هو لا يعمل وفق ما جاء به القرآن.
إن القرآن ليس يحوي نظريات مجردة، وأفكارًا محضة، حتى تدرسه جالسًا على الأريكة ...
كما أنه ليس كتابًا يبحث في اللاهوت، فتحل جميع أسراره ومكوناته في المعاهد والزوايا ..
إن هذا الكتاب كتاب دعوة وحركة، وبمجرد نزوله أخرج رجلاً وادعا، دمثا، سليم الفطرة، كريم الشيم، ومحبا الانعزال، وأوقفه في مواجهة العالم الذي كان قد انصرف عن الحق، وجعله يقارع الباطل، ويحارب أئمة الكفر، وقادة الفسق، وروَّد الضلال.
إن هذا الكتاب انتزع كل روح سعيدة، وكل نفس زكية من كل بيت، وجمعها تحت لواء صاحب الدعوة.
إن هذا الكتاب هو الذي قام بتوجيه الحركة الإسلامية خلال مدة ثلاث وعشرين سنة، والتي بدأت عملها من صرخة فرد واحد، وانتهت في نهاية المطاف إلى إقامة الخلافة الإلهية في الأرض ..
وهذا الكتاب هو الذي تولى وضع مخططات الهدم، ومشاريع البناء في كل مرحلة من المراحل، وفي كل خطوة من الخطوات خلال المعركة المديدة الضارية بين الحق والباطل.