وكان سيف الدولة فيما ذكر؛ قد عمل على تخلية الشام، فلما مات الإخشيد سار كافور بعساكر مولاه إلى مصر من دمشق، وكان قد استولى على مصر رجل مغربي، فحاربه كافور، وظفر به.
وخلت دمشق من العسكر، فطمع فيها سيف الدولة وسار إليها فملكها، واستأمن إليه أنس المؤنسي في قطعة من الجيش. وأقام سيف الدولة بدمشقٌ، يجبي خراجها، ثم أتته والدته نعم أم سيف الدولة إلى دمشق، وسار سيف الدولة إلى طبرية.
وكان سيف الدولة في بعض الأيام يساير الشريف العقيقي بدمشق، في الغوطة بظاهر البلد، فقال سيف الدولة للعقيقي: ما تصلح هذه الغوطة تكون إلا لرجل واحد. فقال له الشريف العقيقي: هي لأقوام كثيرة. فقال له سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين ليتبرأنّ أهلها منها. فأسّرها الشريف في نفسه، وأعمل أهل دمشق بذلك.
وجعل سيف الدولة يطالب أهل دمشق بودائع الإخشيد وأسبابه، فكاتبوا كافوراً فخرج في العساكر المصرية، ومعه أنوجور بن الإخشيد.
فخرج سيف الدولة إلى اللجون، وأقام أياماً قريباً من عسكر الإخشيد ب إكسال، فتفرق عسكر سيف الدولة في الضياع لطلب العلوفة، فعلم به الإخشيد، فرجعوا إليه، وركب سيف الدولة يتشرف، فرآهم زاحفين في تعبئة، فعاد إلى عسكره فأخرجهم، ونشبت الحرب، فقتل من أصحابه خلق وأسر كذلك.
وانهزم سيف الدولة إلى دمشق، فأخذ والدته ومن كان بها من أهله وأسبابه، وسار من حيث لم يعلم أهل دمشق بالواقعة، وان ذلك في جمادى الآخرة سنة 335.
وجاء سيف الدولة إلى حمص وجمع جمعاً، لم يجتمع له قط مثله من بني عقيل وبني نمير وبني كلب وبني كلاب، وخرج من حمص، وخرجت عسكر ابن طغج من دمشق، فالتقوا بمرج عذراء وكانت الوقعة أولاً لسيف الدولة ثم آخرها عليه، فانهزم، وملكوا سواده، وتقطع أصحابه في ذلك البلد، فهلكوا، وتبعوه إلى حلب، فعبر إلى الرقة، وانحاز يانس المؤنسي من عسكر سيف الدولة إلى أنطاكية.
ووصل ابن الإخشيد حلب في ذي الحجة سنة 335. فأقام بها سيف الدولة في الرقة فراسل أنوجور يانس المؤنسي وهو بأنطاكية، وضمن هو وكافور ليانس أن يجعلاه بحلب في مقابلة سيف الدولة، وضمن لهما يانس بأن يقوم في وجه سيف الدولة بحلب؛ وأن يعطيهم ولده رهينة على ذلك فأجابوه.
وانصرف كافور وأنوجور بالعسكر عن حلب إلى القبلة وأتاها يانس فتسلمها. وقيل: إن الإخشيدية عادوا. وأقام سيف الدولة بحلب، فحالف عليه يانس والساجية، وأرادوا القبض عليه، فهرب هو وأصحابه إلى الرقة. وملك يانس حلب.
ولم يقم يانس بحلب إلا شهراً، حتى أسرى إليه سيف الدولة إلى حلب، في شهر ربيع الأول سنة 336، فكسبه فانهزم يانس إلى سرمين يريد الإخشيدية. فانفذ سيف الدولة في طلبه سرية مع إبراهيم بن البارد العقيلي، فأدركته عند ذاذيخ فانهزم، وخلّى عياله وسواده وأولاده، فانهزم إلى أخيه بميّافارقين.
وكان ابن البارد قد وصل إلى سيف الدولة سنة 335 وكان في خدمة أخيه ناصر الدولة، ففارقه، وقدم على سيف الدولة.
ثم إن الرّسل ترددت بين سيف الدولة وابن الإخشيد وتجدد الصلح بينهما على القاعدة التي كانت بينه وبين أبيه، دون المال المحمول عن دمشق.
وعمر سيف الدولة داره بالحلبة، وقلد أبا فراس ابن عمه منبج وما حولها من القلاع، واستقرت ولاية الدولة بحلب من سنة 336. وهذه هي الولاية الثالثة.
وجرى بينه وبين الروم وقائع أكثرها له وبعضها عليه. فمنها: فتح حصن برزويه في سنة 337 من ابن أخت أبي الحجر الكردي. ووقع بينه وبين الروم وقعة فكانت الغلبة للروم وملكوا مرعش، ونهبوا طرسوس، وسار إلى ميارفاقين، واستخلف على حلب ابن أخيه محمد بن ناصر الدولة، وخرج لاون الدمشتق إلى بوقا من عمل أنطاكية. وخرج إليه محمد فكسره الدمشتق، وقتل عسكره خلقاً في سنة 338.
ومنها: أنه غزا سنة 339، ومعه خلق عظيم، فظفر فيها وغنم غنيمة كثيرة. فلما رجع إلى درب الجوزات وفارقه أهل التغور، اجتمع الروم في الدرب على سيف الدولة، فقتل خلق عظيم من المسلمين، وأسر كذلك.
وما سلم إلا سيف الدولة على ظهر فرسه، وعرفوه، فطلبوه، ولزّوه إلى جبل عظيم، وتحته وادٍ، فخاف أن يأسروه عن وقف أو رجع، فضر فرسه بالمهماز، وقبله الوادي، لكي يقتل نفسه ولا يأسروه، فوقع الفرس قائماً.