وعرف سيف الدولة اختلاف الكلابيين، وضعف أبي الفتح عن مقاومته فسار إلى حلب؛ فلما وصل على الفرات خرج إخوة أبي الفتح عثمان بن سعيد بأجمعهم للقاء سيف الدولة، فرأى أبو الفتح أنه مغلوب إن جلس عنهم، وعلم حسدهم له، فخرج معهم.
فلما قطع سيف الدولة الفرات، أكرم أبا الفتح دون إخوته وأركبه معه في العماريّة، وجعل سيف الدولة يسأله عن كل قرية يجتاز بها: ما اسمها؟ فيقول أبو الفتح: هذه الفلانية، حتى عبروا بقرية يقال لها إبرم وهي قرية قريبة من الفايا. فقال سيف الدولة: ما اسم هذه القرية؟ قال أبو الفتح: إبرم. فظن سيف الدولة أنه قد أكرهه بالسؤال. فقال: إبرم من الإبرام. فسكت سيف الدولة عن سؤاله. فلما عبروا بقرية كبيرة. ولم يٍسأله عنها علم أبو الفتح بسكوت سيف الدولة. فقال أبو الفتح: يا سيدي يا سيف الدولة، وحق رأسك، إن القرية التي عبرنا عليها اسمها إبرم، واسأل عنها غيري. فعجب سيف الدولة بذكائه. فلما وصل حلب أجلسه معه على السرير.
ودخل سيف الدولة حلب يوم الاثنين من شهر ربيع الأول سنة 333.
وكان القاضي بها أحمد بن محمد بن ماثل، فعزله. وولي أبا حصين علي بن عبد الكريم بن بدر بن الهيثم الرقي، وكان ظالماً، فكان إذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة. وقال: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك، وعلى أبي حصين الدّرك.
ثم إن الإخشيد سيّر عسكراً إلى حلب مع كافور ويانس المؤنسي، وكان الأمير سيف الدولة غازياً بأرض الروم قد هتك بلد الصفصاف وعربسوس فغنم، ورجع فسار لطيته إلى الإخشيدية، فلقيهم بالرستن. فحمل سيف الدولة على كافور فانهزم وازدحم أصحابه في جسر الرستن، فوقع في النهر منهم جماعة.
ورفع سيف الدولة السيف، فأمر غلمانه أن لا يقتلوا أحداُ منهم. وقال: الدم لي والمال لكم. فأسر منهم نحو أربعة آلاف من الأمراء وغيرهم، واحتوى على جميع سواده.
ومضى كافور هارباً إلى حمص، وسار منها إلى دمشق، وكتب إلى الإخشيد يعلمه بهزيمته، وأطلق سيف الدولة الأسارى جميعهم، فمضوا وشكروا فعله.
ورحل سيف الدولة بعد هزيمتهم إلى دمشق، ودخلها في شهر رمضان سنة 333. وأقام بها يكاتب الإخشيد، يلتمس منه الموادعة، والاقتصار على ما في يده. فلم يفعل. وخرج سيف الدولة إلى الأعراب، فلما عاد منعه أهل دمشق من دخولها، فبلغ الإخشيد ذلك، فسار من الرملة وتوجه يطلب سيف الدولة، فلما وصل طبرية عاد سيف الدولة إلى حلب بغير حرب، لأن أكثر أصحابه وعسكره استأمنوا إلى الإخشيد، فابتعه الإخشيد إلى أن نزل بمعرة النعمان. في جيش عظيم، فجمع سيف الدولة، ولقيه بأرض قنسرين في شوال سنة 333.
وكان الإخشيد قد جعل مطارده، وبوقاته في المقدمة، وانتقى من عسكره نحو عشرة آلاف، وسماهم الصابرية فوقف بهم في الساقة.
فحمل سيف الدولة على مقدمة الإخشيد فهزمها، وقصد قبته وخيمه وهو يظنه في المقدمة، فحمل الإخشيد ومع الصابرية فاستخلص سواده. ولم يقتل من العسكرين غير معاذ بن سعيد والي معرة النعمان، من قبل الإخشيد، فإنه حمل على سيف الدولة ليأسره، فضربه سيف الدولة بمستوفى كان معه فقتله.
وهرب سيف الدولة فلم يتبعه أحد من عسكر الإخشيد وسار على حاله إلى الجزيرة فدخل الرقة. وقيل: إنه أراد دخول حلب فمنعه أهلها.
ودخل الإخشيد حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي، وقطعت الأشجار التي كانت في ظاهر حلب، وكانت عظيمة. وقيل: إنها كانت من أكثر المدن شجراً؛ وأشعار الصنوبري تدل على ذلك.
ونزل عسكر الإخشيد على الناس بحلب؛ وبالغوا في أذى الناس لميلهم إلى سيف الدولة.
وعاد الإخشيد إلى دمشق بعد أن ترددت الرسل بينه وبين سف الدولة، واستقر الأمر على أن أفرج الإخشيد له عن حلب وحمص وأنطاكية، وقرر عن دمشق مالاً يحمله إليه كل سنة.
وتزوج سيف الدولة بابنة أخي الإخشيد عبيد الله بن طغج وانتظم هذا الأمر على يد الحسن بن طاهر العلوي وسفارته، في شهر ربيع الأول سنة 334.
فسار الإخشيد إلى دمشق وعاد سيف الدولة إلى حلب، وتوفي الإخشيد بدمشق في ذي الحجة سنة 334، وقيل: في المحرم سنة 335.
وملك بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، واستولى على التدبير أبو المسك كافور الخادم.