المقدمة

الحمد لله مغيّر الدول، ومهلك الأواخر والأول. والصلاة والسلام الأفضل على محمد الخاتم الأولّ، وعلى آله وأصحابه الكمّل، ما مال ماضٍ وآل مستقبلٌ، وبعد: فيقول فقير عفو ربّه، إسماعيل أبو الفداء، لطف الله تعالى به في مقامه ومسراه، وأحسن إليه في أولاه وأخراه: هذا درٌّ منتخبٌ، وإبريزٌ مكتسبٌ، من كتاب زبدة الحلب في تاريخ حلب للمولى الصاحب صاحب المآثر والمناقب كمال الدين أبي حفصٍ عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيليّ الحلبيّ الحنفيّ، عامله الله تعالى بلطفه الجليّ والخفيّ. وهو التاريخ الذي انتزعه من التاريخ الكبير للشّهباء، المرتّب على الحروف والأسماء، وضمّنه ما وصل إليه، ووقف عليه من ذكر أمراء حلب وولاتها وملوكها ورعاتها، وبعض من عثر عليه من الوزراء والقضاة، سوى الملوك والرعاة، إلى غير ذلك ممّا أفاده هنالك.

وقد سمّيت منتخبي هذا باليواقيت والضّرب في تاريخ حلب، وذكرت فيه ما حصل لي من ذلك، ما لم يصل إلى سواي، وأن أبلغ من عفو الله ورحمته نهاية سؤلي وأقصى مناي، وبالله أستهدي وإلى فضله وأقول:

تسمية حلب

اسم حلب عربيٌّ لا شكّ فيه، وكان لقباً لتلّ قلعتها، وإنّما عرف بذلك لأن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتمل من الأرض المقدّسة ينتهي إلى هذا التلّ فيضع به أثقاله، ويبثّ رعاءه إلى نهر الفرات وإلى الجبل الأسود. وكان مقامه بهذا التلّ يحبس به بعض الرعاء ومعهم الأغنام والمعز والبقر. وكان الضعفاء إذا سمعوا المقدمة أتوها من كلّ وجهٍ من بلاد الشمال، فيجتمعون مع من اتّبعه من الأرض المقدسة لينالوا من برّه. فكان يأمر الرّعاء بحلب ما معهم طرفي النهار؛ ويأمر ولده وعبيدة باتّخاذ الطعام، فإذا فرغ من ذلك أمر بحمله إلى الطرق المختلفة بإزاء التلّ، فينادي الضعفاء: إنّ إبراهيم حلب فيتبادرون إليه.

فنقلت هذه اللفظة كما نقل غيرها، فصارت اسماً لتلّ القلعة. ولم يكن في ذلك الوقت مدينةٌ مبنيةٌ.

وقيل: إنّ بيت لاها كان يقيم وبيت لاها هو جيل اللّكام ويقال له بيت لاها الغربيّ، وبيت لاها الشرقيّ هو ليلون. ويقال لكلّ منهما بالعبري: بيت لاهون به إبراهيم عليه السلام ورعاؤه يختلف إليه. وكان يفعل فيه أيضاً كما يفعل في تلّ القلعة. لكنّ الاسم غلبه على تلّ القلعة دون غيره.

وقيل: إنّ إبراهيم عليه السلام لما قطع الفرات من حران أقام ينتظر ابن أخيه لوطاً في كثير ممّن يتبّعه في سنةٍ شديدة المحل. وكان الكنعانيون يأتون إبراهيم عليه السلام بأبنائهم، فيهبونهم منه، ويتصّدق عليهم بأقواتهم من الطعام والغنم. وصار إبراهيم عليه السلام إلى أرض حلب، فاتخذ الرّكايا وكرا الأعين ومنها عين إبراهيم عليه السلام، وهي التي بنيت عليها مدينة حلب.

وكان للكنعانيين بتلّ القلعة في رأسه بيتٌ للصنم، فصار إليه إبراهيم عليه السلام. فأخرج الصنّم، وقال لمن حضره من الكنعانيين: ادعوا إلهكم هذا أن يكشف عنكم هذه الشدّة. فقالوا: وهي هو إلا حجرٌ؟ فقال لهم: فإن أنا كشفت عنكم هذه الشدة ما يكون جزائي؟ فقالوا له: نعبدك، فقال لهم: بل تعبدون الذي أعبد. فقالوا: نعم. فجمعهم في رأس التلّ ودعا الله فجاء الغيث. وضرب إبراهيم عليه السلام برأس ظلّه حين أقلع الغيث، وتوافت إليه رعاؤه فكان يأمر أصحابه بإصلاح الطعام، ويضعه بين أوعية اللّبن، ويأمر بعضهم فينادي: ألا إنّ إبراهيم قد حلب فهلمّوا. فيأتون من كلّ وجهٍ، فيطعمون ويشربون، ويحملون ما بقي إلى بيوتهم. وان الكنعانيون يخبرون عن إبراهيم بما كان يفعله. وصار قولهم حلب بطول هذا الاستعمال لقباً لهذا التلّ. فلما عمرت المدينة تحته سميت باسمه.

وذكر بعضهم أنّها إنما سميت حلب باسم من بناها، وهو حلب بن المهر بن حيص بن عمليق من العمالقة، وكانوا إخوةً ثلاثة: بردعة، وحمص، وحلب؛ أولاد المهر. فكلّ منهم بنى مدينةُ فسميت باسمه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015