يسمع الحديث فلا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخر منهم أو من القرن الذي يليهم، أو ممن أتى بعدهم؛ فيستنبط منه مسائل كثيرة؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
هذا هو المعنى، اللهم إن كان هذا المؤول قد وجد زيادة في رواية أخرى؛ فاستدل بها على ما ذهب إليه من المعنى، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلوة خضرة؛ فمن أخذها بحقها، بارك الله له فيها، وإياكم والتمادح؛ فإنه الذبح) ولم يذكر فيه: (وإنما أنا قاسم) فإن وردت الرواية بجميع ذلك في حديث واحد، فالحديث محتمل للتأويلين، ويكون الذي ذهب إليه أقرب من الذي ذهبنا إليه، وإن لم يوجد ذلك في حديث واحد، فالظاهر أنهما حديثان: أحدهما- وهو الذي نحن في بيانه- ينبئ عن المعنى الذي ذكرناه.
والآخر [31/ أ]- وهو أيضا روي عن معاوية، رضي الله عنه- يشير إلى أن الخير في الفقه؛ فينبغي أن يحرص عليه، لا على المال الذي نعته كذا وكذا. وهذا الحديث على هذا الوجه يرويه عن معاوية معبد الجهني، وهو أول من تكلم في القدر بالبصرة، وقد ذكره البخاري في كتاب (الضعفاء).
وبيان بقية الحديث قد مر فيما تقدم.
[141] ومنه: حديثه الآخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الناس معادن .. الحديث)، ويرويه- أيضا- أبو هريرة- رضي الله عنه-: (المعدن مستقر الجوهر) من قولهم: عدن بمكان كذا أي: استقر به.
والمعنى أن الناس يتفاوتون في مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، وفيما يذكر عنهم من المآثر على حسب الاستعداد، ومقدار الشرف- تفاوت المعادن؛ فإن منها ما يستعد للذهب، ومنها ما يستعد للفضة، وهلم جرا، إلى غير ذلك من الجواهر المعدنية حتى ينتهي إلى الأدنى فالأدنى؛ كالحديد، والكحل، والزرنيخ والنورة.
ولما دخلوا في دين الله، وفقهوا فيه، وكان ذلك من أتم المآثر، وأعظم موجبات التبجيل- تعزز به كل صعلوك من أفناء الناس، ونزاع القبائل حتى فاق سائر أقرانه في الجاهلية من ذوي المآثر، فربما ظن أحدهم أن المآثر والمكارم لا عبرة بها في حكم الدين؛ فنبأهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله تعالى- كما جعل التفاوت في الجواهر المعدنية- جعل التفاوت في الأوضاع البشرية، وإنما صار ساقط الاعتبار؛ لانعدام الدين، فإذا دخل الرجل في دين الله، وفقه فيه، وكان في الجاهلية من ذوي المآثر؛ فإنه من خيار الناس في الإسلام؛ كما كان من خيارهم في الجاهلية، ويفضل بتلك المآثر على أقرانه في الدين والعلم إذا لم يكن لهم ذلك.
[142] ومنه: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا حسد إلا في اثنتين ..