[139] ومنه: حديث سمرة بن جندب- رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حدث بحديث يرى أنه كذب ... الحديث) (يرى) يجوز فيه فتح الياء وضمها، والرؤية يستعمل على معنى الوهم والتخيل، نحو: أرى أن زيدا منطلق، ومثل هذا المعنى أريد منه ها هنا، وكذلك. أريت، ويجوز أن يكون من (الرأي) الذي هو اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن، وإنما سمي المحدث به كاذبا؛ لأنه رأى أن ذلك كذب ثم سعى بالتحدث به في نشره، فصار معينا لمن افتراه على فريته، فاشترك معه في الوزر، كمن أعان ظالما على ظلمه، وعلى هذا فالأصوب الأشهر فيه أن يكون (يرى) بمعنى: يعلم، إذ ليس لأحد أن يدع الرواية بمجرد الوهم والتخيل، ثم عن كذب الأول ثبت بقوله - صلى الله عليه وسلم - (أحد الكاذبين) ولا أدري بماذا يتمسك المحدث بالموضوعات، وأنى يتخلص من عهدة ذلك بعد سماعه هذا الحديث.
[140] ومنه حديث معاوية رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[30/ ب] (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين).
الفقه هو: التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، ويسمى العلم بأحكام الشريعة فقها، والفقيه: هو الذي علم ذلك، واهتدى إلى استنباط ما خفي عليه.
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يفقهه في الدين) أي: يجعله عالما بأحكام الشريعة ثقفا ذا بصيرة فيه؛ فيصير قلبه ينبوع العلم يستخرج بفهمه المعاني الكثيرة من اللفظ الموجز.
وفيه: (وإنما أنا قاسم، والله يعطي) وجدت بعض العلماء المتبحرين في علم البيان وقد حمل قوله هذا على ما كان يقسمه بينهم من الأموال، وذكر كلاما معناه: أنه قال هذا القول؛ لئلا يكون في قلوبهم سخطة وتنكر عن التفاضل في القسمة؛ فإنه بأمر الله، وإن الله معطيه.
وهذا كلام صحيح، ولكنه لو اعتبر نسق الكلام، ونظر إلى ما يوجبه التناسب بين الكلمات لم يقطع القول بهذا المعنى؛ فإن هذا الحديث ما دام في الرواية على هذا النمط: فالوجه فيه: أن نقول:
أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وإنما أنا قاسم) إلى ما يلقى إليهم من العلم والحكمة، وبقوله: (والله يعطي) إلى الفهم الذي يهتدي به إلى خفيات العلوم في كلمات الكتاب والسنة؛ وذلك انه لما ذكر الفقه في الدين، وما فيه من الخير، أعلمهم أنه لم يفضل في قسمة ما أوحي إليه أحدا من أمته على آخر؛ بل سوي في البلاغ وعدل في القسمة، وإنما التفاوت في الفهم، وهو واقع من طريق العطاء، ولقد كان بعض الصحابة