ومن باب العلم
(من الصحاح)
[138] حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بلغوا عني ولو آية) أي: بلغوا عني ما أمكنكم، أو استطعتم، ولو كان آية؛ لأن الآية أقل ما يكون مفيدا في باب التبليغ، فإن قيل: فلم لم يقل: ولو حديثا، مع أن هذا النوع من الشرط إنما يرتب على الأقل والأدنى، كقوله - صلى الله عليه وسلم - (تصدقوا ولو بشق تمرة) وقوله: (اطلب ولو خاتما من حديد)
قلنا: ليس في هذا الحديث استقصار لشأن الآية، ولا استقلال لحقها في باب التبليغ، ولكنه أشار بذلك إلى تبليغ الآية دون تبليغ الحديث؛ لأن في حملة الكتاب كثرة، وما من آية إلا وقد ثبت فيها التواتر، وقد تكفل الله بحفظ كتابه عن التحريف والتبديل والضياع، فقال- عز من قائل-: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقد قام بحفظها أمة بعد أمة، فالآية- لهذه المعاني؛ ولإجماع الأمة على قبولها، وصحة الرواية فيها- مستغنية عن المبالغة في التبليغ، والغالب على الحديث أن يرويه الأفراد من الصحابة، والمعتبر منه ما نقله صحابيان، وقليل منه ما يدور روايته على عصبة من الصحابة، فصار الأمر بتبليغ الحديث أكد من الأمر بتبليغ الآية؛ لأن تبليغ السنة أكثر مؤونة [30/ أ] وأعظم جدوى إذا لم تبلغ في المعاني التي ذكرناها مبلغ الكتاب، ولولا مكان هذه العلل لم يعدل بتبليغ الآية شيء، والله أعلم.
وفيه: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) يحتمل أن القوم لما سمعوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمتهوكون أنتم) وما يجري مجراه، تحرجوا عن التحدث عن بني إسرائيل، فرخص لهم في الحديث عنهم، ويحتمل أنهم تعجبوا مما حدثوا به عن بني إسرائيل، فرخص لهم في الحديث عنهم، ويحتمل أنهم تعجبوا مما حدثوا به عن بني إسرائيل من جلائل الأمور وعظائم الشيءون حتى تحرجوا عن التحدث به، خشية أن يفضي بهم ذلك إلى التفوه بالكذب، فقال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فقد كان فيهم الآيات الغريبة، والوقائع العجيبة وهو مثل قولهم: حدث عن البحر ولا حرج فيه: (من كذب علي متعمدا) الحديث زيادة في بيان الكذب على وجه التأكيد، قوله: (فليتبوأ) أي: لينزل منزلة منها. وظاهر هذا الكلام أمر ومعناه خبر، يريد أن الله- تعالى- يبوئه منها وتبوأ الدار: أي: اتخذها مسكنا، وأصله البواء، وهو: مساواة الأجزاء في المكان، يقال: مكان بواء، إذا لم يكن نائيا بنازله. وقوله هذا- (من كذب علي متعمدا ...) - إلى آخره، قد بلغ غاية الاشتهار، ولم نجد في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يرويه العشرة المبشرة بالجنة إلا هذا الحديث، وفيه قصة عدلنا عن ذكرها حذرا عن الإطالة، والله أعلم.