الثلاثة ترتيبًا لطبقات أهل الإيمان وتمييزًا بين درجاتهم، فإن العباد وإن تباعدت منازلهم في العبودية واختلفت أحوالهم في علوم المعارف لا يتعدَّون عن الأقسام الثلاثة التي وقع عليها التنصيص في كتاب الله تعالى {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} وهم المفتونون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئًا والأبرار والمقربون وإدخال (أو) في (غيايتان) و (فرقان) إنما كان للتقسيم؛ لأنه من قول الرسول لا من تردّد عن الرواة لا تّساق الروايات فيه على منوال واحد وعلى هذا يحتمل أنه ضرب الغمام لأدناهم منزلةً.

وأرى في حديث النواس بين سمعان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنبيهًا على المعنى الذي نرَاه من طريق الاحتمال وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (أو ظلتان سودَاوَان بينهما شَرْقٌ)، وحَديث النواس هذا يتلو حديث أبي أمامة، والحديثان يتفقان في المعنى وإن اختلف بعض الألفاظ فيهما فقوله (ظُلّتان) الظلة ما يظلك وقيل: هي أول سحابة تظلك. ونرى والله أعلم - أنه إنما وصفهما بالسواد [172/ ب] لكثافتهما وارتكام البعض منهما على بعض وذلك أجدى ما يكون من الظلال في الأمر المطلوب عنها وقوله: (بينهما شرَق) فالشرق: الشمس والشرق الضوء والشرق الشَّق وكل ذلك بفتح الشين وسكون الراء وهو في الحديث محتمل لأحد الوجهين إما الضوء وإما الشق والأشبه أنه أراد به الضوء لاستغنائه بقوله: (ظلتان) عَن بيان البينونة التي بينهما فإنهما لا تسمَّيان ظلتين إلا وبينهما فاصلة فبين - صلى الله عليه وسلم - بقوله (بينهما شرق) أنهما مع ارتكامهما وكثافتهما لا تستران الضوء ولا تمحوانه ولا خفاء أن قوله (ظلتان) في حديث النواس منزل منزلة قوله (غيايتان) في حديث أبي أمامة فعلم أن الضرب الثاني أرفع وأنفع من الأول والثالث أفضل وأكمل من الثاني وذلك؛ لأن قوله: (فرقان من طير) يدل على أن صاحبهما قد بلغ من تلاوتهما والعمل بهما والفهم فيهما مَنزلةً لم يبلغها غيره فصار كل كلمة بل كل حرف منهما مستقلة بنفسها كما أن كل طائر من الفرقين مستقل بنفسها ثم إن هذه الرتبة أعنى تظليل الطير إياه وتصفيفها الأجنحة له من عجائب الأمور ونوادر الشيءون على ما شاهدناه وسمعناه.

قد علمنا أن تظليل الغمام قد كان لكثير من عباد الله فضلاً عن الأنبياء بل شهدا التنزيل به لعموم بني إسرائيل في قوله {وظللنا عليهم الغمام} وأما تظليل الطير بتصفيف أجنحتها فإنها مما أكرم الله به نبيه الذي آتاه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده وتفسير قوله: (ولا تستطيعها البطلة) قد ورد في متن الحديث وهو قول القائل أي: السَحرة وقوله: (لا يستطيعها) أي لا يؤهلون لذلك ولا يوفقون له وأراد بالأخذ من قوله (فإن أخذها بركة): المواظبة على تلاوتها والعمل بها والمصابرة على ما تستدعى إليه من مساورة النفوس ومخالفة الهوى والله أعلم.

[1466] ومنه حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتدري أي آية من كتاب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015