قال شيخ الإسلام رحمه الله موازناً بين الفريقين: (والغالب على كلا الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة: 78]، وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [المائدة: 13].

ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم: أن مدعي التأويل أخطأوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه، فإن الأولين لعلمهم بالقرآن والسنن وصحة عقولهم، وعلمهم بكلام السلف، وكلام العرب علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن، فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وصاروا مراتب، ما بين قرامطة وباطنية، يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء، وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات، وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر. وآخرون من أصناف الأمة، وإن كان تغلب عليهم السنة فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه.

والذين ادعوا العلم بالتأويل، مثل طائفة من السلف وأهل السنة وأكثر أهل الكلام والبدع رأوا أيضاً أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن، ورأوا عجزاً وعيباً وقبيحاً أن يخاطب الله عباده بكلام يقرأونه ويتلونه وهم لا يفهمونه، وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطأوا في معنى التأويل الذي نفاه الله، وفي التأويل الذي أثبتوه، وتسلق بذلك مبتدعهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه.

وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلاماً وجدالاً، ولكن بفرية على الله، وقول عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته فهذا هذا. ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل) (?).

وهذا النص تحليل دقيق لهذين المذهبين وغوص عميق على سر ضلالهما، وتقويم منصف لما تضمنه كل مذهب من حق وباطل.

وشيخ الإسلام رحمه الله يصحح القولين الأولين في معنى التأويل في مواضع كثيرة من كتبه، كقوله في توجيه كلام الإمام أحمد في رده على الجهمية: (إنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه .. ) (?)، ثم ذكرها, وفسرها, وبين معناها، فقال رحمه الله: (قد يجاب بجوابين:

أحدهما: أن يكون في الآية قراءاتان: قراءة من يقف على قوله: إِلاَّ اللهُ، وقراءة من يقف عند قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وكلتا القراءتين حق. ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. ومثل هذا يقع في القرآن .. )، ثم ذكر أمثلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015