للسلف في موضع الوقف في هذه الآية مذهبان:
الأول: مذهب الجمهور (?) وهو الوقف على قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ.
الثاني مذهب كثير من السلف وهو الوقف عند قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
قال الطبري رحمه الله: (واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل الراسخون معطوف على اسم الله، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أو هو مستأنف ذكرهم بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون آمنا بالمتشابه، وصدقنا أن علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفرداً بعلمه. وأما الراسخون في العلم فإنهم ابتدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأن جميع ذلك من عند الله) (?)، ثم ساق بأسانيده هذا القول عن عائشة، وابن عباس، رضي الله عنهم، وعروة، وأبي نهيك الأسدي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك رحمهم الله- (?)، ثم قال: (وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (?). ثم ساق الروايات عمن ذكر ذلك وهم: ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير رحمهم الله (?).
فهذان قولان محفوظان عن السلف، ظاهرهما التعارض، فالأول يقضي باختصاص الرب سبحانه بعلم التأويل، والثاني يفيد اشتراك الراسخين في العلم بعلم التأويل. ولا ريب أن لكل قراءة محملاً صحيحاً لا يعارض المحمل الآخر. وسر هذا الاختلاف راجع إلى تحديد المراد بـ (بالتأويل). فمن أراد به الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، التي هي عين الموجود في الخارج، أخذ بقراءة الوقف على (إلا الله) , حيث إن إدراك الكيفيات وكنه المغيبات من خصائص علمه سبحانه.
ومن قصد بالتأويل (التفسير) وبيان معنى الكلام، ودلالته اللغوية، أثبت للراسخين في العلم علماً بذلك التأويل ووصل الآية. وبذلك يزول الإشكال، ويتوافق الكلام. ومن لم يميز بين المعنيين، ويحمل كل قراءة على المعنى المناسب لها، وقع في الاشتباه واللبس، وخلط بين الحق والباطل، وفسر (التأويل) بمعنى غير صحيح أدى به إلى تلفيق مذهب أصاب فيه من وجه, وأخطأ من وجه آخر.
وقابل هذين المعنيين الصحيحين معنيان باطلان:
الأول: مذهب أهل التحريف (التأويل المذموم)، فقد تضمن مذهبهم حقاً وباطلاً. فأما الحق فجزمهم بأن النصوص دالة على معان مقصودة مطلوبة، وأن من العيب والعجز والقبح اعتقاد أن الله يخاطب عباده بكلام غير مفهوم وغير مقدور على فهمه أصلاً. وأما الباطل فاعتقادهم أن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف ذلك الظاهر. فوقعوا في التحريف. وصاروا يحتجون بمذهب مجاهد وغيره من السلف الذين أرادوا بالتأويل: التفسير، وينتسبون إليهم، ويتذرعون بقراءة (الوصل) لإثبات باطلهم.
الثاني: مذهب أهل التفويض (التجهيل)، وقد تضمن مذهبهم حقاً وباطلاً. فأما الحق فنكيرهم على أهل التحريف الذين يقولون على الله بغير علم، ويبتكرون المعاني المجازية بغير دليل ولا برهان. وأما الباطل فلتعميمهم نفي التأويل على المعنى اللغوي كما هو على الحقيقة. وصاروا يحتجون بمذهب جمهور السلف الذين أرادوا بالتأويل: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، أو التي عليها الشيء في الخارج، وينتسبون إليهم، ويتذرعون بقراءة (الوقف) لإثبات باطلهم.