فإن إطلاق المكروه على ما هو مكروه تنزيهاً اصطلاح للمتأخرين لم يعرف عن المتقدمين من السلف، فلم يقولوا فيما لا حرج فيه إنه مكروه، ولم يكن شأنهم أن يقولوا فيما لا نص فيه هذا حلال وهذا حرام، لئلا يكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116 - 117].
وإنما كانوا يقولون فيه هذا مكروه, أو أكره هذا, أولا أستحب هذا (?). وما أشار إليه الشاطبي هنا: من استعمال السلف لفظ المكروه بمعنى الحرام هو ما وضحه ابن القيم حيث بين أن في استعمال القرآن والسنة ما يشير إلى هذا كقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [الإسراء: 32]. وقوله: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ [الأنعام: 152]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كره لكم قيل وقال ... )) (?) إلخ.
ومما يدل على أن البدع إذا عبر عنها بالكراهة فإنه يقصد بها كراهة التحريم هو ورود النهي عن البدع على وجه واحد، ونسبتها إلى الضلال على كل حال، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا إذا تأملنا حقيقة البدعة - جلت أو خفيت - وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات مخالفة تامة. فمرتكب المكروه يفعله متكلاً على العفو اللازم فيه, ورفع الحرج الثابت في الشريعة له. كما أن اعتقاده غير متزحزح، فهو يعتقد المكروه مكروهاً والحرام حراماً، ثم إنه يرى ترك المكروه أولى في حقه من الفعل, ويود لو لم يفعل، وعلى كل فطمعه في الإقلاع عن هذا المكروه, والتخلص من الوقوع فيه لا ينقطع.
أما مرتكب أدنى البدع فإنه يعد ما دخل فيه حسناً, بل يراه أولى مما حد له الشارع، ويزعم أن طريقه أهدى سبيلاً، ونحلته أولى بالأتباع، فهو يفعل ما يخالف, ولا يستشعر سوء ما يفعل، ويندر أن يتحرك قلبه نحو التوبة مما هو واقع فيه (?).
وعلى كل حال فالبدعة لها أمران:
أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له, حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له.
والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد, أو ناقص, أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع فيكون قادحاً في المشروع (?). ولذلك فإن البدع مع كونها محرمة فهي في أعلى درجات المحرم، وتكاد كلها أن تكون كبائر, فإن التشريع الزائد, أو الناقص, أو تغيير الأصل لو لم يكن بناء على اجتهاد خاطئ, أو تأويل غير مقبول لكان كفراً, وكل ما ذكر في شأن البدعة وما ورد فيها من الذم يرجح ذلك.
تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار لصالح بن سعد السحيمي بتصرف - ص215