فالتأويل الثاني: هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، أو تعرف علته أو دليله. وهذا التأويل الثالث: هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة - رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن)) (?) تعني قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3]. وقول سفيان بن عيينة: (السنة هي تأويل الأمر والنهي)، فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر به، ونفس الموجود المخبر عنه هو تأويل الخبر، والكلام: خبر وأمر. ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء (?) , لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونفس ما نهى عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع (أبقراط) و (سيبويه) ونحوهما من مقاصدهم ما لا يعلم بمجرد اللغة. ولكن تأويل الأمر والنهي لا بد من معرفته بخلاف تأويل الخبر).

وقد تضمن هذا السياق تقرير الحقائق التالية:

1 - بيان معاني التأويل المستعملة وهي:

(أ) صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح لدليل يقترن به، وهو اصطلاح المتأخرين.

(ب) التفسير، وهو اصطلاح المفسرين.

(ج) الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وهو عين ما يوجد في الخارج، وهو المعنى المراد في النصوص الشرعية.

2 - تأويل كل كلام بحسبه:

(أ) تأويل الخبر: عين المخبر به إذا وقع.

(ب) تأويل الأمر، نفس الفعل المأمور به.

3 - التأويل المتعلق بالأمر والنهي لا بد من معرفته وإدراك حقيقته لأنه مناط التكليف، بخلاف تأويل الخبر فلا سبيل إلى إدراك حقيقته إلا بوقوعه وتحققه.

وبعد هذا التأصيل يصل شيخ الإسلام رحمه الله إلى علاقة التأويل بصفات الرب - تعالى -، فيتابع قائلاً: (وإذا عرف ذلك، فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بمالها من حقائق الصفات. وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفسه ما يكون من الوعد والوعيد) (?). فإذا كان التأويل - بمعنى الحقيقة - متعلقاً بذات الباري جل وعلا، فلا سبيل لأحد إلى العلم به سواه سبحانه. وإذا كان التأويل متعلقاً بأمر مستقبلي كالوعد والوعيد، فالعلم به حاصل بتحقق وقوعه لمن شاء الله أن يعلمه.

أما التأويل - بمعنى التفسير وفهم المعنى ومقصود الخطاب - فهو ممكن في كل ما أخبر الله به مما يتعلق بذاته المقدسة أو الأمور الغيبية أو غير ذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً حدود هذا الإمكان: ( .. ولهذا ما يجيء في الحديث: نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه، لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة، تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنَّة لحماً, ولبناً, وعسلاً, وماء وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته. والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، ومع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد) (?). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي - ص 313

طور بواسطة نورين ميديا © 2015