وقال ابن القيم رحمه الله في شرح آية: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور: 35] قال رحمه الله: (النور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب؛ فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق، لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة بل يتصادفان ويتوافقان) (?).

أما غير أهل السنة من المتكلمين والمتصوفة وغيرهم فكلامهم في مسائل الكون خبط من غير علم:

يقول عبد القادر البغدادي – وهو يذكر ما أجمع عليه أهل السنة وهم – عنده – الأشاعرة -: (وأجمعوا على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها .. وأجمعوا على أن الأرض متناهية الأطراف من الجهات كلها، وكذلك السماء متناهية الأقطار من الجهات الست (?)) وزعم أنه يرد بذلك على الفلاسفة والدهرية.

فهذا الذي قاله لا يدل عليه عقل ولا نقل فضلا عن الإجماع، بل هو - في زماننا هذا – أشبه بالأساطير. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: (والخطأ فيما تقوله الفلاسفة في الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع أعظم من خطأ المتكلمين، وأما فيما يقولونه في العلوم الطبيعية فقد يكون صواب المتفلسفة أكثر من صواب من رد عليهم من أهل الكلام، فإن أكثر أهل الكلام في هذه الأمور بلا علم، ولا عقل، ولا شرع) (?).

النتيجة التاسعة عشرة: اعتقاد منع التعارض بين النقل والعقل يفيد في عمران الحياة، وازدهار الحضارات؛ فتنعم البشرية بهدي الله وشرعه، ولأهل السنة اليد الطولى والقدح المعلى في تقدم المعارف العقلية، والعلوم التطبيقية، إذ ليس هناك ما يحجزهم دونها، كما حدث في الدولة المسيحية في عصور الظلام، حين انقدح عندهم التعارض بين نصوص الإنجيل ومعطيات العقل، حتى تعرض المشتغلون بالعلوم التطبيقية والمعارف العقلية إلى أشد أنواع التنكيل من قبل الكنيسة حتى كان الانعتاق من سلطانها، وبداية ظهور الاتجاه العلماني.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم (بذلك) (?) متمتعين .. ) (?).

النتيجة العشرون: إن الالتزام بهذا المنهج يوحد بين صفوف المسلمين، ويجمع كلمتهم؛ على تنوع اهتماماتهم العلمية والعملية، وتفاضل مقاديرهم في العلم والإيمان، ولا يعني هذا الاتفاق في جميع تفاصيل المسائل ودقائقها، ولكن الاتفاق في الطريق والمنهج الموصل إلى الحق، فإن وجد اختلاف بعد ذلك لم يفسد للود قضية، بل يندفع بالتناصح والتشاور، وتذوب حدته في بحر الألفة والمودة:

قال أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله: (?) (السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطرق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات المتقنين قلما تختلف، وإن (اختلفت) (?) في لفظ أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه، وأما ذكر دلائل العقل (?) فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يرى صاحبه غير ما يرى الآخر. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان علي حسن - 2/ 730

طور بواسطة نورين ميديا © 2015